عوني صادق عوني صادق

لماذا التظاهر بالخيبة؟

إعلان محمود عباس عن «عدم رغبته» الترشح للانتخابات الرئاسية التي أصدر مرسوماً بإجرائها في الرابع والعشرين من كانون الثاني المقبل لا تدل على أن الرجل قرر اعتزال الحياة السياسية، بل إن الإعلان في بعض ما انطوى عليه من عبارات تفيد أن الأمر لا يزيد عن مناورة تخرجه من عنق الزجاجة التي وضع نفسه وفريقه فيها بعد أن خذله أصدقاؤه الأمريكيون. نقول ذلك لأن الموقف الأمريكي لم يأت من فراغ ولم يكن ابن لحظته.

ففي نهاية الأسبوع الثالث من شهر تشرين أول الماضي، وقبل زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى المنطقة، والتي مهد لها المبعوث الرئاسي جورج ميتشيل، أجرى الرئيس محمود عباس مكالمتين مع الرئيس باراك أوباما ولمح في إحداهما إلى احتمال ترك منصبه، قائلاً: «سيدي الرئيس، لم أعد أستطيع، أنت وإسرائيل وحماس حشرتموني في الزاوية ولم تتركوا أمامي أي مساحة. نحن يائسون من الوضع».

وقبل زيارة كلينتون- ميتشيل ولقائهما المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين، كان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيمس جونز قد قال في ندوة عقدت في واشنطن تطرق فيها للموقف الأمريكي من المفاوضات: «حان الوقت للذهاب إلى ما هو أبعد من تنظيم مفاوضات». وبعد إشادته بجهود ميتشيل، قال: إن «الوقت حان لإطلاقها بدون شروط مسبقة من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي...» (الأخبار اللبنانية- 17/10/2009).

وبعد اللقاء الذي جمع بنيامين نتنياهو وميتشيل، نقل عنه مرافقوه قوله: «إن الفجوات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لا تزال كما هي والطريق لا تزال مسدودة» (الصحف-30/10/2009).

وفي لقاء وزيرة الخارجية والرئيس محمود عباس في أبو ظبي، عرضت عليه ضرورة استئناف المفاوضات، فشدد عباس على وقف عمليات الاستيطان قبل ذلك، بينما كان نتنياهو يكرر منذ مدة أن مطلب وقف عمليات الاستيطان يعتبر «شرطا مسبقاً» مرفوضاً. وفي المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقدته كلينتون وشارك فيه نتنياهو في القدس المحتلة بعد مباحثاتهما، كرر نتنياهو موقفه قائلاً إنه «على استعداد لاستئناف المفاوضات بدون شروط مسبقة»، وأن «رئيس السلطة الفلسطينية هو الذي يعيق استئناف المفاوضات» بوضعه شروطاً مسبقة، وقد أيدت كلينتون هذا الموقف فعقبت على كلام نتنياهو بقولها: «إن ما يقوله رئيس الوزراء دقيق»!

هكذا يبدو الموقف الأمريكي واضحاً لا لبس ولا غموض فيه، وكان واضحاً على الأقل منذ اللحظة التي تراجع فيها ميتشيل وقبله باراك عن التمسك بوقف العمليات الاستيطانية. والموقف الأمريكي كان دائماً، وسيبقى، بما يخص الكيان الصهيوني ملتزماً بما يراه هذا الكيان لمصلحته. هذا المبدأ لم يبتدعه أوباما، لكنه بالتأكيد لم يكن متوقعا أن يشذ عنه. لقد سبق لأوباما أن جعل من مسألة «تجميد الاستيطان» قضية القضايا ثم تراجع عن ذلك، إلى أن أصبحت رموز إدارته ترى وتعلن أن ذلك يمثل قيداً و«شرطاً مسبقاً» على المفاوضات، الأمر الذي لا يصح لمن يريد التوصل إلى اتفاق!

لماذا إذن الشكوى والتظاهر بخيبة الأمل واليأس ثم إعلان «عدم الرغبة» في الاستمرار؟ أليس ما تعلنه سلطة أوسلو صباح مساء هو أنه لا سبيل أمام الفلسطينيين إلا المفاوضات ثم المفاوضات، ثم الإصرار على المفاوضات؟ إنه لا يجوز لمن يعلن ذلك أن يصاب بالخيبة أو باليأس، بل وأكثر من ذلك عليه أن يذهب إلى المفاوضات «بدون شروط مسبقة»، إلا إذا جاءت من «الشريك الإسرائيلي» أو من «الراعي الأمريكي»، لأنها في هذه الحالة لا تستهدف إلا  «إنجاح المفاوضات»! فالشروط الإسرائيلية- الأمريكية على استئناف المفاوضات، أو على المصالحة الفلسطينية، أو على الحكومة الفلسطينية، كلها شروط لمصلحة «سير المفاوضات» من أجل التوصل إلى اتفاق يهم أطراف هذه المفاوضات جميعاً أن تتوصل إليه! أليس في ما أصبح يقوله الأمريكيون، وهو ما سبق لنتنياهو أن قاله، من أن الموقف النهائي من الاستيطان سيتقرر عند بحث مسألة الحدود ضمن ما يسمى «قضايا الحل النهائي»؟

مرة أخرى، لماذا إذن الشكوى والتظاهر بالخيبة واليأس ثم إعلان «عدم الرغبة» في الاستمرار؟ إن ذلك يخدم هدف أنصار أوسلو على أكثر من جبهة. فأولا، التظاهر بالخيبة يوحي بأنه كان لديهم ما يطالبون به، وهو أقصى ما يتوقع من مفاوض من هذا النوع، وبأنهم حصلوا على «وعود» بشأن تلك المطالب، لكن «الظروف» لم تساعد على تنفيذها، وهو ما يجعل هؤلاء يوحون بأن «الأمل» يظل موجوداً شرط  التمسك به رغم العقبات ورغم «التعنت» الذي يظهره «الشريك»، وهو بعض ما انطوى عليه إعلان عباس عندما قال إن «تحقيق السلام يظل ممكناً»، وما لم يتحقق هذه المرة يمكن أن يتحقق في مرة قادمة! وإذا بدت الخطوات «متعثرة» فهذا  دليل على جدية «الصراع» الذي يخوضه المفاوضون، على عكس ما يزعمه الرافضون من أن الصراع في هذا الميدان هو أقل صعوبة من الصراع في الميادين الأخرى، كميدان المقاومة المسلحة مثلاً! أيضاً، من جهة أخرى، التظاهر بالخيبة أو اليأس، قد يدفع «الشركاء» إلى الإقدام على بعض «مبادرات حسن النية» لتعزيز موقف أنصار المفاوضات، فيبدو وكأنهم حققوا بالخيبة ما لم يحققوه بغيرها، ويبدو أن عباس استطاع أن يحقق «نصراً» بسبب «تمسكه بمواقفه»، وهو ما يفتح باب البحث مجدداً عن سبل «استئناف المفاوضات المجمدة». أليس الهدف هو أن لا يتوقف الحديث عن المفاوضات؟ ذلك كله يصب في قناة المناورات إلا إذا كان الأمريكيون قد استغنوا عنه لصالح من هو أكثر ليونة وامتثالا لأوامرهم، وهذا النوع حوله وفي إطار هيكل السلطة كثيرون.

لقد أثبتت كل الأحداث والوقائع أن الصهاينة ماضون في برنامجهم للاستيلاء على كل فلسطين، وكذلك ما تيسر من الأراضي العربية، وهم مقتنعون أن الظروف الدولية والعربية الراهنة تعطيهم كامل الفرصة لتحقيق هذا البرنامج، وكل ما يقال غير ذلك باطل. والحقيقة هي أن الخيبة ليست تلك التي تبدو، أو لا تبدو، على وجوه أنصار أوسلو، بل هي تلك التي تعيشها الجماهير الفلسطينية، في الداخل وفي الشتات على حد سواء، تلك النابعة من حقيقة تفيد أن هذه الجماهير و«قواها الوطنية» قد أصبحت عاجزة عن تحريك البركة التي أسنت، واستسلمت لما تأتي به الأقدار! فهل هذا صحيح؟ أين تلك الجماهير التي أشعلت الانتفاضتين؟ أين القوى التي حملت راية تحرير فلسطين؟ أين وكيف كل ذلك اختفى؟ هل حقا أمكن قمعها؟ هل نجح النخاسون في شراء سكوتها وهدوئها ودفعوها إلى هوة اليأس؟ إن شعبا قاوم قرناً كاملاً لا يمكن أن يقبل الخضوع، وفي ما أعلنه ما يبرر حل السلطة القائمة في إطار أوسلو، وهذا الباب الذي يمكن أن تدخل منه كل البدائل الممكنة لمواجهة الاحتلال من منظور سليم.