لا مفر...!
الطبقة الحاكمة مصممة على تدمير الوطن وإفناء الشعب. لم يكفهم هبوط أكثر من 40% باعترافهم إلى ما تحت خط الفقر. اذ لا يزالون يعملون بكل همة ونشاط على استكمال برامجهم وسياساتهم «الليبرالية الجديدة» التي جلبت على البشرية كلها الويلات، والتي تم إعلان إفلاسها.
طالعتنا الصحف المصرية بتصريحات وزير الاستثمار لدى حضوره اجتماعات البنك الدولي في تركيا عن نية الحكومة طرح حصص من شركات قطاع الأعمال العام للبيع في البورصة. وتناولت إحدى الصحف هذا الموضوع تحت عنوان 174شمس الخصخصة تشرق.. وغروب الصكوك الشعبية حتى انتخابات الرئاسة».
في هذا السياق نشرت الصحف خاصة الحكومية (بابتهاج) نبأ ما قرره رئيس وزراء بريطانيا عن بيع بعض الأصول في محاولة لرد الاعتبار لليبرالية الجديدة المهزومة، وبالتالي لتبرير استمرار سياساتها المدمرة في مصر. إذ أن سياسات الطبقة الحاكمة التي هي منظومة كاملة من المساخر والبلايا لا تكف عن التعبير عن وفائها (الذي يعز نظيره) لسادتهم الامبرياليين حتى لو كانوا في أكثر حالاتهم ضعفاً.
بعد سنوات طويلة من كارثة «الرهن العقاري» في بريطانيا، التي تسببت فيها مارجريت تاتشر، مررت السلطة التابعة قانوناً مشابهاً منذ أعوام قليلة، رغم أن السياسات الائتمانية الخاصة بالنشاط العقاري في الولايات المتحدة كانت تعاني بشدة قبل انفجارها المدوي الأخير في إطار انفجار فقاعة الاقتصاد المالي الامبريالي (الوهمي). وهنا تتجلى مأساة عودة «شمس الخصخصة» الغاربة.
حسبما نشرته صحيفة «المصري اليوم» فإن قائمة الشركات التي ستعرض للبيع (الدفعة القادمة) تضم ما بين 30 و40 شركة (من بينها شركات في قطاع التأمين). وبطبيعة الحال فإن عمليات البيع– التي نرفضها من حيث المبدأ– ليست أكثر من عملية سرقة. إذ توضح البيانات المنشورة في الصحيفة أنه وحتى عام 2004 فقد تم بيع 302 شركة ووحدة منذ بدء العمل في البيع، وأن حصيلة البيع بلغت حوالي 17 مليار جنيه مصري، دخل منها إلى الخزانة العامة للدولة 7.8 مليار جنيه، بينما ذهب من الحصيلة 4.8 مليار جنيه لتسوية المديونيات المصرفية. وذهب مبلغ 3.4 مليار جنيه للإنفاق على المعاش المبكر(أي تشريد العمال). ولم يتبق حتى الآن سوى 173 شركة تابعة لقطاع الأعمال العام!!
يتضح بجلاء كيف تم تبديد جهد وعرق ودم الكادحين المصريين دون مقابل. إذ أن حصيلة تبديد 302 شركة ووحدة تقل عن 2 مليار يورو وصل منها إلى الخزانة العامة أقل من مليار يورو. وبمقارنة بسيطة بين حصيلة «بيعنا» وبين ما أعلنه جمال مبارك في إطار التحضير لمؤتمر ما يسمى «الحزب الوطني الحاكم» من تخصيص 10 مليار جنيه إضافية لمياه الشرب والصرف الصحي الذي يدور الكثير من الكلام والتصريحات عن خصخصتهما. ثم المقارنة الأكثر وضوحاً بين تلك الحصيلة وبين فضيحة سرقة 45 مليار جنيه من البنوك المصرية منذ سنوات عدة وتم الهروب بها إلى الخارج، فإنه يتبين أية هوة عميقة بلا قرار سقطت فيها البلاد.
إن الإعلان عن استئناف الخصخصة يأتي بعد إحباط مؤامرة «الصكوك الشعبية». وكلاهما «الصكوك والخصخصة الجديدة» تستهدفان في النهاية استحواذ الطبقة الحاكمة على ما تبقى من أصول.
لكن المضحك هو ما أعلنه وزير المالية عن «تحقيق نمو بلغت نسبته 4.7% رغم الأزمة العالمية» بفضل حزمة تحفيز الاقتصاد التي بلغت 15 مليار جنيه (أي ما يقارب حصيلة بيع 302 من وحدات القطاع العام كما أشرنا عاليه)، ويتوقع الوزير العبقري أن يحقق الاقتصاد نمواً يقدر بنحو 5% العام المقبل! لكنه لم يوضح أي قطاعات حققت هذا النمو (أكيد أهمها قطاعات الإعلان والرشوة.. الخ). كما لن يوضح نسبة نمو الفقر والجوع والمرض.
إن المسألة لا تقتصر على الفقر الذي اعترفت احصاءات دولية بأن 40% من المصريين تحت خطه، أي ما يزيد على ثلاثين مليوناً. إذ يوجد 12 مليون مصري مصابين بالالتهاب الكبدي الوبائي (فيروس C) غير القابل للشفاء حتى الآن، بخلاف ملايين آخرين مصابين بنفس المرض (فيروس A و B) وأمراض شتى أخرى أهمها السرطان شاعت في البلاد بسبب استيراد المبيدات والكيماويات الزراعية المسرطنة من العدو الصهيوني أو بسبب تلوث مياه الشرب والزراعة... الخ.
إن وزراء الطبقة الحاكمة يكذبون بلا خجل. إذ أن الأزمة في مصر سابقة على تفجر الأزمة العالمية، بل إنها كانت نتيجة التبعية المطلقة للإمبريالية التي حاولت الخروج من أزمتها الكامنة بالمزيد من النهب لبلداننا. وكل ما يعنيهم الآن هو تأمين التوريث لجمال مبارك، وإن كانت هناك مؤشرات لتحركات أمريكية لخلق حالة من البلبلة والتشوش بشأن التوريث. إذ قفزت فجأة إحدى أبرز مؤسسات تمويل ما يسمى المجتمع المدني وحقوق الانسان وهى «فريدوم هاوس» ودخلت على خط الموضوع لضمان تأمين عدم خروج السلطة من يد الليبراليين الجدد الضالعين حتى النخاع في التبعية والولاء للامبريالية الأمريكية على وجه الخصوص.
إن البلاد تعيش أزمة أكثر عمقاً وحدة من تلك التي عاشتها عقب حريق القاهرة في 26 يناير 1952، وفي قلب هذه الأزمة تعشش أزمة النخبة المصرية التي قايضت شرفها الوطني مقابل الفتات. وهذا ما يضع البلاد في مفترق طرق حاسم.
فهل تنتهي الأزمة بالطريقة السابقة نفسها؟