ركوب الدبابة الأمريكية

لأول وهلة يبدو ركوب الدبابة الأمريكية سهلاً ومغرياً. سهلاً، إذ يكفي أن يضع المرء نفسه في خدمة المخابرات المركزية الأمريكية، وهذه تقوم بالباقي، ومغرياً لأن المرء يعود إلى بلده منتصراً، محاطاً بالأمجاد، هذا عدا مختلف المنافع المادية لكن لابد من أن يكتشف المرء عاجلاً أو آجلاً، أن المسألة صعبة وقد تكون صعبة جداً.

في العراق يجب أن يقول المرء، إن استخدام الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب وغير ذلك هو لمصلحة الديمقراطية والتحالف وضد الإرهاب. ويجب أن يقول المرء في الباكستان، إن القرية التي قصفت في 13 أو 14 /1/2006 جميع أطفالها وشيوخها الذين قتلوا هم ظواهري، ويجب أن يعاد قصفها من أجل إبادة كل ظواهري فيها. أيضاً اعتقال الصحفيين أو (قتلهم) واختطاف الصحفية التابعة لمانيفستو، وزعم المختطفين (الأمريكيين) أنهم إسلاميون، وكسر باب غرفة صحفي في الولايات المتحدة وسرقة شريط فيديو منه، كل ذلك هو لمصلحة حرية الصحافة والرأي.

وعندما يدافع المرء عن كل أمثال تلك القذارات ويبررها، فإنه يتناقض قبل كل شيء مع نفسه، لأن الإنسان مهما بلغ به الانحطاط، تبقى لديه ردة فعل غريزية ضد الجريمة. ولكن هذا لايهم ويبتلعه صاحب العلاقة في سبيل «الأمجاد» ولكنه يتناقض مع جميع القوى الوطنية في شعبه، ولايصبح مهدداً في اعتباره الاجتماعي فحسب، وإنما أيضاً في حياته. لذلك تحاط حياته «الثمينة» بالحراسة القوية، ويصبح سجين تلك الحراسة، فلايستطيع أن يتصرف بشكل طبيعي ولا أن يخلو لنفسه، لأنه، إذا لم يكن الموت يترصده في كل زاوية فإن الخوف يلازمه في نومه وفي يقظته، والأسوأ من ذلك أن سادته يلفظونه بعد انتهاء مهمته، يجب أن يبقى مفيداً دوماً، وإذا ماضعفت قدرته على الإفادة يصبح مجرد حذاء بال.

تلك هي حال من ركبوا الدبابة الأمريكية وأتوا إلى العراق، وكذلك من يملؤون بلدانهم صراخاً في سورية أم في لبنان أم في مصر أم في الباكستان، أم في أي مكان آخر. قادة كبار ذلوا، وسوهارتوا أندونيسيا وماركوس الفيليبين، وشاه إيران، بل أين هو غورباتشوف! صحيح أنه لايزال لديه مصروف جيب، ولكنه مهمش، بعدما كان قائد أكبر دولة عظمى، لقد باع نفسه وبلده بثمن بخس . . .

وإذا تركنا جانباً مايصيب عملاء الإدارة الأمريكية المتفرعين من ظروف حسنة أو سيئة، فيجب القول، إنهم سلاح في يد تلك الإدارة، مضاف إلى الترسانات الأخرى العسكرية والإعلامية والمالية. ذلك أنه منذ بداية تكون المجتمعات وحتى الآن لايستطيع أي مجتمع على الإطلاق السيطرة على مجتمع آخر، إلا بأدوات من نفس المجتمع المسيطر عليه.

وهؤلاء قد يأتون قبل الغزو، أو بعد الغزو، أي قبل أن يقوم واقعياً المجتمع المعتدي بالعدوان على المعتدي عليه، فيمهد الأول لعدوانيته بشراء عناصر من المجتمع المستهدف، أو بعد أن يقوم المجتمع المعتدي بعدوانه، فيساعد على استتباب الأمر بتجنيد أدوات من أبناء المجتمع الثاني.

طبعاً القول إن مجتمعاً ما يعتدي على مجتمع آخر فيه خطأ كبير تجاوزناه مؤقتاً من أجل إيصال فكرة تجنيد العملاء. إن قيادات المجتمع طائفياً كان أم قبلياً، أم مجتمع دولة بالمعنى الحديث، هي التي تعتدي، ولكن تجد بطبيعة الحال مجتمعها للمشاركة في العدوان، وقيادات المجتمع المعتدى عليه هي التي تنطوي على نقاط الضعف التي من خلالها تتعاون هي أو بعض عناصرها مع العدوان ضد مجتمعها. طبعاً القيادة لاتعني فقط الإدارة القائمة، وإنما أيضاً مجمل التشكيلات الاجتماعية الموجودة في ظل الرأسمالية الدولية تستخدم الاحتكارات الدولية ملايين البشر في مؤسساتها الإنتاجية والمالية والإدارية بل والمافوية، وإدارات البلدان المتطورة هي من الإنتاج الاجتماعي لتلك الاحتكارات. أيضاً الامتدادات التاريخية لتلك الاحتكارات في العالم الثالث أنتجت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تضمن لها (أي للاحتكارات) استمرار الاستنزاف والتبعية والاستقرار الأمني. وهذا يعني وجود شبكات ثالثية واسعة مغذاة ثقافياً ومالياً واجتماعياً لضمان الأوضاع المذكورة. وهذه الشبكات لاتدخل بمجموع عناصرها تحت لافتة العمالة، قد تكون قيادات الشبكات عميلة، أما مجموع أفرادها، فهم جزء من وضع، من آلة ضخمة تخدم الاحتكارات، أرادوا ذلك، أم لا، عرفوا ذلك أم لا.

والاستقرار في ظل الرأسمالية الدولية لايستمر لأن التناقض الكبير الذي ينطوي عليه الاستغلال يفجر الأوضاع بأشكال مختلفة بثورات عمالية، بثورات الفقر، بثورات تحرر وطني، بسياسات وطنية تحررية هنا أو هناك، الثورات العمالية لها إطار خاص، لسنا في صدده الآن، أما ثورات الفقر، فتقمع بضراوة، أينما حدثت، وفي أي وقت تحدث، وثورات التحرر الوطني استطاعت خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية وبمساعدة الاتحاد السوفييتي السابق أن تحقق انتصارات سياسية في مختلف القارات، و أن تحول المستعمرات السابقة إلى دول مستقلة سياسياً، والسياسات الوطنية التحررية استطاعت في الستينات وحتى مطلع السبعينات من القرن الماضي أن تحقق مداً دولياً هاماً، إن على صعيد الأمم المتحدة، أم على صعيد المنظمات الدولية الإقليمية. ثم انهار الاتحاد السوفييتي، وبقيت الإمبريالية الدولية مقودة بالإدارة الأمريكية قطباً وحيداً، هنا أصبح البند الوحيد في جدول أعمال تلك الإدارة، هو إعادة أمور العالم إلى ماقبل الاتحاد السوفييتي، أي إلى أيام الاستعمار القديم. طبعاً هذا غير ممكن موضوعياً فالتاريخ في أي مجال أخذ لايرجع إلى الوراء، ولكن بالنسبة للإدارة الأمريكية وبالنسبة للعالم، لايهم إن كان ذلك ممكناً أم غير ممكن، المهم أنه مثقل بالكوارث العالمية والإنسانية، التي قد تصل إلى تدمير العالم، احتلال أفغانستان، احتلال العراق، إبادة الفلسطينيين، تهديد إيران، تهديد سورية، التدخل الفظ في لبنان، التنصت المخالف للدستور على الشعب الأمريكي، نشر السجون السرية في أنحاء أوروبا، اختناق السجون الأمريكية بالأمريكيين، لجرائم وهمية، أو لجرائم تافهة مضخمة في كثير من الأحيان، بينما الجرائم الكبرى تؤلف كابوساً رهيبا ًعلى الشارع الأمريكي، كل ذلك ليس سوى مقدمة لكوارث هي اكبر بكثير.

الإدارة الأمريكية مستغرقة أكثر فأكثر في المستنقعات الدولية، التي تخلقها لنفسها، لايهمنا هنا إن كانت ستنجح هنا،  أو هناك أم ستفشل. طبعاً نتمنى أن تفشل. مايهمنا هو أنها في مخططاتها القذرة تحتاج  العملاء، وتفتش عنهم في كل مكان، هؤلاء يتميزون عن الشبكات المربوطة بالرأسمالية الدولية والتي ذكرناها أعلاه بأنهم يجب أن تصل وقاحتهم إلى درجة تمجيد الأسلحة الفوسفورية، وتمجيد كل ماهو غير وطني باعتباره انفتاحاً أو ديمقراطية أو خلاصاً أو أي شيء آخر. يتميزون بأنهم يركبون الدبابة الأمريكية ضد بلدانهم.  

 

■  محمد الجندي