العراق.. ديمقراطية الاحتلال.. رحلة التزوير والفشل

لم يكن بمقدور الشريحة الأوسع من الجماهير العراقية إلا أن تذهب إلى الاقتراع، لقد فرض عليها ذلك عنوة، فرضه التضليل الإعلامي والأكاذيب البنفسجية، وفرضه التلويح بورقة الطرد من العمل للموظفين والعمال المهددين دائماً بقطع أرزاقهم وقوت عوائلهم، حيث فرض عليهم إحضار هوية الأحوال الشخصية والبطاقة التموينية خصوصاً في الشمال والجنوب، وذلك لتخويف جميع مستلمي الرواتب من الدولة بصورة عامة، ولفرض أجواء من الخوف على المجتمع برمته... ناهيك عن الوعود الكاذبة..

على أية حال تم ما يسمى بالانتخابات، وكرر التاريخ تجربة الانتخابات بصورة أكثر هزلاَ وسخرية في العراق الذي يعاني من مشاكل مستعصية، كثيرة وكبيرة.. الاحتلال وسيطرة الميليشيات، انعدام الأمن، الحرب الدائرة بين الإرهاب الأمريكي وإرهاب المشبوهين وإرهاب الدولة المؤقتة القومية الطائفية، انعدام الخدمات العامة وقلة المنتجات النفطية ومشتقاتها ورفع أسعارها، قلة الأجور والبطالة، وخنق الحريات السياسية والفردية.....

في هذه الأجواء وبعد نهاية يوم 15/12  ظهرت مشاكل جمة ومستعصية الحل على الذين يديرون أمور البلاد. ظهر التزوير بالآلاف حيث وصلت إلى المفوضية العليا "اللامستقلة" أكثر من 2000 شكوى!! ناهيك عن عدم وصول ألاف أخرى من الشكاوى، وظهرت على السطح اعتراضات ومظاهرات لقائمة التوافق والعلاوي، واعترض أكثر من 42 ائتلافاً وكياناً وحزباً على نتائج الانتخابات التي أفرزت فوز الائتلاف العراقي الموحد أي قائمة 555 مرة ثانية على التوالي وبفاصل كبير عن الوصيف الأول أي قائمة التحالف الكردستاني. إذن أصبح الأكل مطبوخاً وجاهزاً على المائدة، جاهزاً للانزلاق بالكامل نحو الهاوية، جاهزاً لحروب طائفية وقومية، جاهزاً لسحق أمال الجماهير وتطلعاتها، وجاهزاً لخنق أمنيات ومطالب الشباب والمرأة ... هذا هو عراقنا الجديد، عراق ذو ديمقراطية طائفية وقومية، وهي ليست غريبة عن المنطقة، ولكن التجربة فشلت في لبنان وستفشل حتما في العراق أيضاً. الدولة لم ولن تبنى على أساس التوافق، بل على أساس انتماء "المواطنين" إلى حاضنة الدولة. لكن في العراق لا دولة موجودة ولا مواطن، فقد حل محل ذلك الأقاليم والأقوام والطوائف، وهذا ما تم تجسيده في الانتخابات الأخيرة.

في هذه الأجواء وعلى رغم اعتراضات قوية من 42 حزبا وكياناَ، على نتائج الانتخابات، ظهرت صحوات لتشكيل حكومة التوافق واشتراك كافة أطياف المجتمع العراقي!! لماذا الانتخابات إذن؟!.... ولكن من جانب اليسار من الشارع تحديداً هناك اعتراضات من نوع أخر، اعتراضات جماهيرية تدعو إلى إلغاء قرار حكومة طالباني- الجعفري الطائفية القومية، وإلغاء قرار رفع سعر البنزين ثلاث مرات حسب طلب من صندوق النقد الدولي... وربما منذ 35 سنة لم نر احتجاجات جماهيرية تغطي العراق بكامله من الشمال إلى الجنوب والوسط، يتوحدون حول مطلب واحد وهو إلغاء هذا القرار......

العملية السياسية المزورة التي يجري تسويقها من قوات الاحتلال منذ نيسان 2003  تشبه كل الأمور المزورة الأخرى التي رافقت الاحتلال، إن قرار الأمريكان غزو العراق واحتلاله كان مزوراً وباطلاً أساساً، حيث بنيت حججه على الأكاذيب التاريخية الكبرى، مثل وجود أسلحة الدمار الشامل، ووجود علاقة بين بن لادن والدكتاتور السابق... والذي يبنى على الباطل سيكون باطلاَ بصورة عامة. إن عملية سياسة كالتي قادها الأمريكان مع من ساروا في ركابهم هي أساساً عملية لإبعاد جماهير العراق عن دورها في بناء دولة جديدة، وهي عملية لسحق أمال وتطلعات الجماهير، التي تتطلع إلى حياة أفضل وإلى توفير الحريات السياسية والمدنية والفردية ومعيشة أفضل. سحق هذه التطلعات في زمن الاحتلال كما سحقت من قبل، لا بل كما سحقت على مديات أبعد وأعمق.. الآن الجميع يعاني من انقطاع التيار الكهربائي وقلة المحروقات الضرورية من النفط والبنزين والغاز، هذه الخدمات التي لم تصل حتى الآن إلى المستويات التي كانت متوفرة في زمن حكومة ما قبل الاحتلال.

ابتكروا واخترعوا آليات وطرق عمل لجعل هذه العمليات المزورة عملاَ جماهيريا، مثل ما يسمى بالانتخابات والاستفتاء وما شابه ذلك. فرضوا على الجماهير الانتخابات لكي لا ينتخب أحد أحداً بل على الناس أن تختار الذي اختير مسبقاً.

 

هذه هي العملية السياسية الجديدة التي جلبتها أمريكا إلى العراق مع دباباتها ومدرعاتها وصواريخها وفسفورها الأبيض لإلقائها على العراقيين بواسطة المحافل المختلفة التي تتحرك وفق مشيئة البنتاغون أو المخابرات المركزية... والحال كهذا، إن الناخبين يصوتون لطائفتهم ولقوميتهم بدلا عن حقوقهم الفردية والسياسية والمدنية، يصوتون لصالح تلك الأحزاب التي جعلت من الطائفية و«القوموية» شعاراَ وأهدافاً لها، لأن معيشتهم ورواتبهم بأيدي تلك الأحزاب. وكانت نتيجة ما تسمى بالانتخابات الأخيرة أنها جسدت تلك الحالة الخطيرة... بعد ظهور النتائج الأولية لهذه المهزلة صعدت أصوات احتجاجية من صفوف كل القوائم ضد النتائج بحجة وجود التزوير، ولديهم طبعا بعض من الوثائق لتثبيت صدقية كلامهم. إن تزوير عملية الاقتراع قد تمت لا محالة في تلك المهزلة، ولكن المشكلة لا تكمن في تزوير النتائج بل تكمن في التقسيم الطائفي والقومي الموجودة أصلاً، قبل الانتخابات، ومادام هذا التقسيم هو الأساس الذي يقف عليه الناخب، إذن ستكون نتيجة أي عملية انتخابية محسومة لصالح القوى الرجعية. إن من يريد أومن يرغب في إقامة انتخابات حرة ونزيهة عليه إن يكنس تلك الأسس التي بنيت عليها العملية السياسية لحد الآن. أي عليه ان يكنس الاحتلال والقوى السياسية الرجعية. عليه ان يكون عنصرا فعالاَ أو حزبا نشطا ضد الطائفوية والقوموية لصالح عراق جديد، عراق يعترف بحق المواطنة المتساوية للجميع في دولة  تخلص نفسها من الأديان بصورة عامة، ومن القوميات العربية والكردية وتسن دستورها من الجماهير بصورة واعية ومباشرة. حينئذ بإمكاننا أن نتحدث عن عدم تكرارا تلك المهزلة أو تلك المهازل التي مر بها العراق. وهذه العملية هي عملية نضالية ثورية يحرر العراقيون من خلالها أنفسهم من ويلات الماضي البعيد والقريب.