تحت وقع التجاذب والتناقض مع واشنطن الخطوط والخنادق تتحرك في أوروبا

لننسَ «أوروبا الفتية» و «أوروبا القديمة» (أو «الهرمة»). والحق انه نجح الاتحاد الأوروبي في مساوماته على الموازنة أم أخفق، وتفادى زيادة أزمة مالية الى أزمته الدستورية أم لم يتفادَها، فما لا ريب فيه هو أن الموازين الداخلية في طور التغير. بالأمس، بدا أن كتلتين ثبتتا على خلافهما. فاجتمعت كتلة أولى، من بريطانيا والبلدان الخارجة من الشيوعية، إلى الليبرالية، وإلى الانضواء تحت لواء الولايات المتحدة، ونبذ كل دينامية فيديرالية. ولاقى تمسك الأعضاء الجدد باستقلالهم الحلم البريطاني المزمن بالتأرجح بين أوروبا وأمريكا من غير استقرار على موضع.

وفي مقابل هذا التواطؤ المتين ظهرت علامات الإنهاك على الحلف الألماني – الفرنسي، وعلى دفاعه عن أوروبا سياسية، وعن التنسيق الاقتصادي بين دولها. وأدت غلبة الحلف المديدة على بروكسل (العاصمة الأوروبية) الى ائتلاف الضغائن والاحباطات بوجهه وضده. وأضعفت الأحلام الانتخابية وضروراتها بإسبانيا وإيطاليا مساندة الدولتين الحلف الفرنسي– الألماني. فبدا جلياً أن قاطرة أوروبا السابقة عاجزة عن اختطاط نهج يسير الاتحاد الأوروبي عليه، ويقتصر تأييده على بلجيكا واللوكسمبورغ.

وتولى رئاسة الاتحاد نصف السنوية، في تلك الاثناء، توني بلير. فأبلغ هذا عواصم شرق أوروبا أنه لم يقع على وسيلة تُجَنب مشروع موازنة أعوام 2007- 2013 العجز المتعاظم إلا قضم «الصناديق البنيوية» (مصدر مساعدات الاتحاد الى الدول الجديدة العضوية). فالرجل الذي انضمت هذه البلدان الى سياسته، واصطفت تحت لوائه، يقول لها، بلا كياسة، ان النهج الذي استفادته منه اسبانيا واليونان والبرتغال، وتعول عليه دول شرق أوروبا اليوم، ينبغي النظر في تعديله وخفض مساعداته.

فشعر الأعضاء الجدد بأن سياسة بلير، وهو رجلهم وصاحبهم، إنما هي طعنة في ظهورهم. فاحتجوا، وذكروا بمبدأ التضامن الأوروبي، وهم انحرفوا عنه من قبل ولم يدينوا به على الدوام، وطلبوا تحكيم باريس وبرلين وتأييدهما.

وهذا الانقلاب في المواقف جعل الوقائع الأوروبية على غير ما كانت عليه الى البارحة. وإسبانيا دعت اليسار الى الحكم (وكان في الحكم حزب انحاز الى السياسة الأميركية). وتعد ايطاليا العدة لتحذو حذوها (وكان بيرلوسكوني يوالي المحور البريطاني – الأميركي كذلك). ولم تقترع ألمانيا للسياسة الليبرالية التي دعتها أنغلا مركل اليها. وفوضت بولندا، وهي أكبر البلدان الجديدة في الاتحاد، مقاليدها الى حزب اجتماعي محافظ، يميني جداً في المسائل الاجتماعية ويساري جداً في المسائل الاقتصادية (!!؟).

وأوروبا، على هذا، لا تقدم نموذجها على الليبرالية، فحسب، أي اقتصاد السوق الاجتماعي على شريعة الأقوى. وعثرات البيت الأبيض العراقية أضعفت زعم من كانوا يزعمون ان الحكمة كل الحكمة إنما هي في المشي على خطى الولايات المتحدة.

والاتحاد الأوروبي، اليوم، في منزلة بين بين لم تنجل بعد. ولكن لحُمة أخرى تدب خطواتها الأولى، تنشأ من الحاجة الى التضامن والتناغم والمشروعات المشتركة والإرادة السياسية .

 

■ برنار غيتّا/ موقع ايكاوس