الرأسمالية الفرنسية لم تكن ولن تصبح صديقا
● الذاكرة المريضة للطبقات الحاكمة التابعة منشغلة دائماً بتدمير الذاكرة الجمعية للأكثرية لحقنها باستدخال الهزيمة، والمساومة والهرولة وخيانة الذات والتاريخ والأخطر خيانة المستقبل.
● ما عدد مواطني المستعمرات الذين ذبحهم الرجل الأبيض منذ بداية الاستعمار "الحضاري" وحتى اليوم؟ وما هي مقادير الثروات المنهوبة من هناك؟
● من يُفترض أن يكونوا حاملين للذاكرة الجمعية العربية، يلقحون بها "إيدز" الثقافة والذاكرة.
أكثر من أسبوعين مضت على ثورة العرب والأفارقة من مدن الصفيح في فرنسا. ثورة مدن السود على مدن البيض، ثورة الفقراء على الأغنياء، وثورة المقيم على المواطن. فالعرب والأفارقة في الغرب الرأسمالي، وإن حملوا جنسيات حتى منذ عدة أجداد، لا يُنظر إليهم، ولا يُعاملون كمواطنين حقيقيين بل يُنظر إليهم باعتبارهم أجانب أتوا للعمل وليس للاستثمار (رغم أنهم جُلبوا بالقوة)، لهم ثقافة مختلفة، لا بل إنهم لا يمكن أن "يتأوربوأ". هذه هي الثقافة المركزانية الأوروبية والأمريكية التي ترى في نفسها ليس الأعلى وحسب، ولكن الثقافة التي لا يمكن لغير الأبيض أن يفهمها وأن يتمثلها حتى لو استدخلها (انظر كتاب، عادل سمارة، أبعد من فك الارتباط: التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة التنمية بالدولة، الفصل الثالث (بالإنكليزية).
بعبارة أوضح، فإن مختلف النصوص القانونية التي تتضمنها قوانين الأحوال الشخصية في الغرب الرأسمالي لا تعني بالنسبة لأكثرية المواطنين هناك شيئاً. كما لا تعني بالنسبة للشرطة وحتى القضاء شيئاً طالما أن الثقافة نفسها عنصرية. صحيح انه في بعض الأحيان يضطر القضاء لحماية حق هذا أو ذاك، ولكن بالمجموع العام، فإن الثقافة تطغى على النص القانوني وتلقي به خلفها. فتحت جلد القانون تكمن ثقافة عنصرية دموية، يعرفها جيداً من عاش في الغرب شريطة أن لا يكون قد ذهب هناك من مدخل دوني.
لا يشعر العربي في الغرب أنه مواطن حقيقي، ولا يشعر أنه سائح، حتى لو كان النفط يتدفق من عينيه. وحتى الطلبة لا يشعرون بأنهم مرتاحون وأحرار. أما بُنى المجتمع المدني هناك، فهي لصالح الأبيض ابن البلد وليست لصالح المهاجرين سواء القدامى أو الجدد.
في عصر الاستعمار الرأسمالي المباشر، لم تكن هناك وسائل للهجرة إلى أوروبا تحديداً إلا عبر الدولة الاستعمارية نفسها. هي التي قادت ملايين العمال للعمل في اقتصاداته حينما كانت أوروبا تحترب على ثروات العالم. كانت أوربا "المدنية" تذبح أبناءها لمصالح الرأسمالية في هذا البلد أو ذاك. وعندها كان لا بد من حشد الشباب من المستعمرات سواء ليُذبحوا في الحروب أو للعمل حيث يحلون محل الجنود الذين ذهبوا للحرب كي يقاتلوا أو يُذبحوا أو يعودوا معطوبين.
وحتى في أمريكا، فهي كقوة استعمارية أبادت سبعين مليونا من الهنود الحمر في مذبحة تاريخية بدأها كولمبوس. وهذا لم يكف كافة الرؤساء الأمريكيين وآخرهم جورج بوش الحالي حيث يعيد المذابح على صعيد عالمي مدفوع بمصالح رأس المال وبهوس رجال الدين الايفانجيليين الذين يشحنونه باتجاه مذبحة مجدو المنتظرة! ما تزال الولايات المتحدة تستجلب قوة عمل من مختلف بلدان العالم لتعاملهم كالقطعان ولاسيما العرب.
إن المجتمع المدني في الغرب «أبيض أوربي غربي في الأساس» ثم أوروبي شرقي، ثم أصفر وأخيراً، في الدرك الأسفل، للسود والعرب إن بقي هناك متسعٌ.
هناك جزء من التاريخ البشري والاقتصادي لا بد للبشرية أن تبحثه وتكتبه وهو: ما عدد مواطني المستعمرات الذين ذبحهم الرجل الأبيض منذ بداية الاستعمار «الحضاري» وحتى اليوم وما هي مقادير الثروات المنهوبة من هناك. فربما نجد أن ما تم نهبه من المستعمرات هو الذي خلق للغرب الرأسمالي هذا التقدم ولاسيما بسبب الاستثمار في «البحث والتطوير» وكأننا نقول: كان ولا يزال تخلفنا شرط تقدمهم.
لهذا ثارت ثائرة الدول الرأسمالية الغربية حينما حاول العالم الثالث إثارة مسألة الاستعمار وما نُهب منه وما ذُبح من مواطنيه على يد الاستعمار. وكان الكيان الصهيوني الاشكنازي على رأس المحتجين، لأن الاحتلال واغتصاب الأرض والنهب جارٍ في فلسطين علنا حتى اللحظة.
من هنا، فإن الرئيس الفرنسي، وهو غربي برجوازي ارستقراطي بامتياز، فهو في خطاباته بشأن ثورة الفقراء ضد التمييز، إنما يحلم بإدارة أزمة وليس حلها. فالرأسمالية لا تحل أزمة عنصرية، وإنما تعيد إدارتها تكراراً متواصلاً.
يجوز لنا أن نؤكد بأن فرنسا، هي عدو للعرب بامتياز أيضاً. فهي غير نادمة على ما نهبت وذبحت في الجزائر والمغرب وتونس وسورية ولبنان ومصر في عدوان 1956، والعراق في الحصار والتأييد الموارب للاحتلال حيث يسيل لعابها لشفط دم الشعب العربي في العراق، ودورها اليوم في مشروع إعادة احتلال سورية ولبنان، وما لا ندريه بعد. ولعل دورها الحالي في لبنان وسورية يؤكد بأن ما اعتقده الرئيس الراحل عبد الناصر بأن فرنسا «صديقة» للعرب، إنما كان "سذاجة" سياسية يا سيادة الرئيس. فيكفي أن فرنسا هي التي ألقت في أحضان الكيان الصهيوني بمفاعل ديمونة النووي منذ عهد الرئيس عبد الناصر.
حبذا لو نعرف أن السياسة حلقات متصلة وليست أجزاء منفصلة عن بعضها انفصالاً كلياً، حتى وإن بدت كذلك.
لا بد من الربط المستديم بين السياسة والتثقيف المجتمعي بحيث يتواصل التأصيل في الذاكرة لتاريخ العدو والصديق كي لا نشطب الذاكرة وهي تاريخية ودائمة لصالح موقف سياسي طارئ، لندفع دمنا مقابله لاحقاً. كما لابد من إحداث الطلاق بين الذاكرة الجمعية للطبقات الشعبية، أي أكثرية الأمة العربية وبين الذاكرة المريضة للطبقات الحاكمة التابعة، لأن هذه الأخيرة منشغلة دائماً بتدمير الذاكرة الجمعية للأكثرية لحقنها باستدخال الهزيمة، والمساومة والهرولة وخيانة الذات والتاريخ والأخطر خيانة المستقبل.
قد يستثقل البعض كلمة خيانة. ليكن. ولكن، لنفكر قليلاً بالجدل الذي دار في مصر قبل بضعة أعوام في تقييم حملة نابليون ضد مصر. فقد جادل مثقفون مصريون وعرب لصالح الحملة كدفعة «حضارية». مع أن نابليون نفسه جاء مقاتلاً وبأهداف استعمارية معلنة. بل واستخف بالعقل العربي حيث لبس "العمامة". فبدل أن يتم تجليس العدوان في موضعه الطبيعي انبرى مثقفو "الأنجزة" لتزيين العدوان!
أما لبنان، فها هو الشبق الطائفي والطبقي للاستعمار الفرنسي يلقي بنفسه مستسلماً للفحولة الفرنسية. لا بل إنهم يلقون بسورية ولبنان معاً في مخدعٍ المستعمر العتيق.
يحصل تزيين الاستعمار الفرنسي والغربي عامة في مصر ولبنان والأرض المحتلة ومختلف البلدان العربية على يد من يُفترض أن يكونوا حاملين للذاكرة الجمعية العربية، فإذا بهم يلقحونها بـ«إيدز» الثقافة والذاكرة. ومن أجل ماذا، فقط لأن وراء ذلك دراهم !!!
ألا يكفي هذا ليشعر الفرنسي بأنه سيدنا جميعاً، وأن يشعر نعم أن استعماره لنا قديما وحديثا كثير علينا! في أحيان معينة، تكفي دناءة مواطن لإهانة أمة بأسرها، حاكم عربي مثلاً دون ضرب الأمثلة، بينما يرفعها مواطن آخر. ألم يرفع جول جمال شأن أمة بأكملها حينما أغرق جاندارك عام 1956 وهي أكبر مدمرة في العالم آنذاك؟
■ د. عادل سمارة