قرار مجلس الأمن و السيادة العربية المستباحة
يسجل قرار مجلس الأمن الأخير حول سورية ولبنان منعطفاً سياسياً جديداً وخطيراً في مجرى العلاقات الدولية، وفي إطار القواعد القانونية التي تنظمها، بذهابه في انتهاك مبدأ السيادة الوطنية للدول إلى أبعد مدى يحتمل. لقد سبق لمجلس الأمن أن أصدر قرارات انتهكت سيادات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة كتلك التي صدرت ضد العراق تحت عنوان «النفط مقابل الغذاء» لترهن سيادته على ثروته، أو كتلك التي شرعنت احتلاله كالقرار 1483 والقرار ، 1546 أو كتلك التي صدرت في حق الصومال وليبيا وصربيا مطالبة بتسليم مطلوبين.. الخ. وسبق لمبدأ «حق التدخل» (الأمريكي) أن وجد طريقه، ولو جزئياً، إلى بعض القرارات «الدولية». لكنها المرة الأولى التي يصل فيها انتهاك السيادة إلى درجة مطالبة دولة بإقامة علاقات دبلوماسية مع دولة أخرى وتبادل السفراء!
ومع علمنا بأن منظومة الأمم المتحدة انتهت، منذ عقد ونصف، بانتهاء حالة التوازن الدولي بين المعسكرين، وبانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة الشؤون الدولية..، وبأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالذات في حكم المؤسسة المصادر قرارها من واشنطن منذ أزمة الخليج في صيف العام ،1990 إلا شيئاً من الاعتقاد بقي لدينا بأن الدول الكبرى، المتضررة من سياسات الانفراد الأمريكي والهيمنة الفجة، ستتمسك بالحد الأدنى من شكليات القانون الدولي فلا تسمح لأمريكا بأن تهيل عليه التراب وتفرض على الجميع قانونها. لكن القرار الأخير لم يكشف سوى عن أن ممانعة تلك الدول لا تعدو أن تكون رمزية، والأخطر من ذلك أنها سقطت في فخ التسويغ لانتهاك القانون الدولي.
يقر ميثاق الأمم المتحدة بأن العلاقات الدبلوماسية بين الدول شأن يعود إلى الدول تلك نفسها لأنه فعل من صميم السيادة. وللسيادة في القانون الدولي حرمة لا تقبل الانتهاك على ما ينص على ذلك الميثاق نفسه. فكيف يجيز مجلس الأمن لنفسه، وهو الموكول إليه أمر حماية القانون الدولي والتقرير بمقتضى أحكام الميثاق، حق انتهاك القانون والميثاق والدوس على واحد من أهم المبادئ المؤسسة للعلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ أليس يدمر بذلك مبدأ وجوده كمجلس؟
قد يقول قائل إن القرار ليس ذا قوة إلزامية لأنه لم يصدر بمقتضى أحكام الفصل السابع من الميثاق، ولا هو نص على وجوب إقدام سورية على إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان، وإنما صيغ بعبارات حث وتشجيع للبلدين على المضي في اتجاه هذا الهدف. وليس المهم هنا أن نذكر القائل بأن مسودة القرار الأولى نصت على وجوب مثل تلك العلاقات، قبل أن يخضع للتعديل، وإنما الأهم أن مجلس الأمن سمح لنفسه بأن يسجل على نفسه سابقة خطيرة ستجد فيها الدولة العظمى الوحيدة ما يبرر لها غداً مطالبات أخرى من نفس الضرب، أي تقع في صميم المساس بمبدأ السيادة.
من المؤسف أن دول الممانعة الدولية للسياسة الانفرادية الأمريكية، وخاصة منها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لم تعد تملك القوة الدافعة، إلى استعمال حق «الفيتو» لكف سياسة الانفراد تلك وإعادة الاعتبار الى مرجعية القانون الدولي، لكن ذلك العجز ما منع دولتين رئيسيتين منها (روسيا والصين) من الامتناع عن التصويت للسبب نفسه: التدخل في مبدأ السيادة. حتى الأرجنتين، التي صوتت لصالح القرار، أوضحت ما لديها من اعتراض على مبدأ التدخل في سيادة الدول مقيمة عزلاً بين هذا الموضوع وبين تنفيذ سورية للقرار 1559.
ربما كان لدى معظم من صوتوا لصالح القرار ما قد يحميهم غداً من احتمال البناء على السابقة للمساس بسيادات دولهم، وخاصة مع علمهم بالانتقائية الحاكمة للسياسة الأمريكية. ولكن من سيحمي دولة عربية مثلاً من مطالبة أمريكية لها غداً بإقفال قناة فضائية تابعة لها لأنها قد لا ترضي كلياً السياسة الأمريكية؟ ومن سيضمن غداً ألا تكر سبحة التطاول على السيادة فيبادر مجلس الأمن مثلا إلى إصدار قرار يحدد سقف أسعار النفط بذريعة «حماية» الأمن الاقتصادي والصناعي العالمي؟ ومن يضمن ألا يدعو مجلس الأمن في قرار ما من قراراته الدول العربية إلى تبادل التمثيل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني حتى دون جلاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية؟ ومن يضمن ألا يصدر مستقبلاً قراراً يفرض على بعض الدول العربية تجنيس ملايين العمال غير العرب المقيمين فيها ومنحهم حقوق المواطنة الكاملة؟
لا شيء يضمن ألا يحدث ذلك وأسوأ منه إن مرت السابقة إياها (وقد مرت) دون تصحيح واستدراك. وقطعاً، إن لم تفعل ذلك الدول الكبرى التي مازال في عروقها دم كرامة يجري فعلينا السلام نحن الصغار. أما من يتبرع من دولنا العربية على السياسة الأمريكية بما يضع بين يديها أسباب استدراج سياداتنا المنقوصة أصلاً إلى حتفها، فسيكتشف غداً أنه لن يكون بمنأى عن شظايا التفجير الدولي لكياناتنا.