هل أعضاؤنا قطع غيار لهم؟؟

في الانتفاضة الكبرى، تراهن جنود الاحتلال على من منهم أبرع في قتل الفلسطينيين، برصاصة واحدة في الرأس.

في ثوان سقط أربعة شبّان بإصابات في الرأس، اثنان استشهدا فوراً،  وواحد فارقت روحه جسده وصعدت إلى بارئها بعد يومين، والرابع بقي متشبّثاً بالحياة رغم موت الدماغ (موت إكلنيكي).

الأربعة الذين اصطادهم جنود الاحتلال نابلسيون، وذلك اليوم وصف بالجمعة السوداء. ثلاثة طويت سيرتهم، أمّا الرابع فقد تناقلت حكايته الصحافة العربيّة وبعض الصحف العالمية، ومنها صحيفة (الهيرالد تربيون )، لما فيها من إثارة.

الرابع هذا نقل بعد الإصابة إلى مستشفى رفيديا في نابلس، وبعد يومين نقل إلى مستشفى المقاصد المطّل على مدينة القدس.

ذلك الفتى الذي اعتبر ميّتاً إكلينيكيّاً هو ناصر هوّاش.

دينيّاً، وإنسانيّاً، وأخلاقيّاً ترك الفتى ليصارع الموت لعلّه بمعجزة يفوز بالحياة، خّاصة وأن أناساً يئس من عودتهم للحياة كتبت لهم الحياة من قبل، ومن بعد (شوفينمان، الوزير الفرنسي أحدهم ! ).

في تلك الفترة أصيب شخص (إسرائيلي) بعطب قلبه وتوّقفه عن العمل.  ذلك الشخص اسمه (يسرائيل)، وهو تاجر ثري.

ذووه بحثوا عمّن يتبرع له بقلب، ولم يجدوا، فداروا على المستشفيات،  بما فيها المستشفيات الفلسطينيّة. ورغم عنصريتهم تجاه العرب،  والفلسطينيين بخّاصة، فإنهم تلهّفوا للحصول على قلب حتى لو كان قلباً عربيّاً (الحياة أهم من الإيديولوجيا، وحتى من فتاوى الحاخامات المتعصبين ).

بعد التداول تبيّن أن قلب ناصر هوّاش يناسب (يسرائيل)، فكان أن بدأت المساومة. ..

صحفي فلسطيني كان يبحث عن خبطة صحفيّة تشهره، وتعزّز مكانته كوسيط _ أحجم عن ذكر اسمه _ اتصل بأسرة ناصر، وحاول إغراءهم بكّل السبل، حّاضاً إيّاهم على التبرع بقلبه لإنقاذ (يسرائيل) لما في هذا من ضجّة إعلاميّة عالميّة لمصلحة الشعب الفلسطيني!...

انتبهوا: ذلك الصحفي عمليّاً أراد أن يقنع ذوي ناصر بأن يطلبوا من الأطباء في مستشفى (المقاصد) سحب البرابيش التي تضّخ الغذاء لجسده، وانتزاع قلبه _ إماتته عمليّاً ومنح الحياة لـ( يسرائيل) !

القيادات الوطنية في نابلس اجتمعت وتشاورت في الأمر _ هذه هي الروح الوطنية الفلسطينية التي سادت في تلك الانتفاضة.. قبل أوسلو _ وقررت بالإجماع رفض الصفقة.

قيادات من التيّارات: الإسلاميّة، والقومية، والوطنيّة، والشخصيّات المستقلّة قرّرت بصوت واحد: لا نقبل بقتل الفلسطيني لإنقاذ حياة (يسرائيل)،  لا مكافأة للقتلة بأعضاء، ودّم، ولحم الضحيّة. ..

آنذاك تابعت هذه الحكاية التراجيديّة، والتي كانت في فصلها الأخير كما يلي: مات (يسرائيل) الذي لم يتبرّع له بنو دينه بقلب أحد موتاهم،  وظلّ ناصر يصارع الموت حتّى ليلة ميلاد السيّد المسيح.

أجراس كنائس القدس، كنيسة القيامة، وكنيسة المهد في بيت لحم، تقرع،  وتملأ الليل الفلسطيني الحزين بنداء الحياة، وتذكّر بالمسيح المصلوب فداءً للبشر. في تلك اللحظات فاضت روح ناصر الهواش!.

لحظة ميلاد وموت، تلكم هي الحياة، هكذا كانت وهكذا تبقى، ومع صعود روح ناصر كانت امرأة فلسطينية تدفع من رحمها طفلاً فلسطينيّاً جديداً حمل اسم ناصر. ..

لا، هذه ليست أسطورة، بل هي حكاية الفلسطيني الواقعية المستمرّة.

انشغلت بهذه الحكاية وكتبتها رواية صدرت عن دار الآداب عام 94،  ولمّا زرت نابلس بحثت عن قبر ناصر الهوّاش وقرأت على روحه الفاتحة...

الحكاية من جديد

جندي محتّل، يسدد إلى رأس فتى من مخيم جنين،  فيرديه شهيداً.

الفتى اسمه أحمد إسماعيل الخطيب  ! 

أحمد فتى فلسطيني من مخيّم جنين _ مخيّم البطولة والشهادة والكارثة، تبرّع والده بأعضائه لتكون قطع غيار لإسرائيليين، ونال ثناء رئيس الكنيست (الإسرائيلي) مثنياً على سخائه بالتبرّع بأعضاء ابنه، فهكذا يبرهن الفلسطينيون على حبّهم للسلام!.

الأب صرّح بأنه مستعّد أن يذهب ليلتقي بشارون من أجل السلام !

عرفات ذهب إلى رابين، وباراك، وبيرس، وشارون و.. كانت نهايته السّم القاتل.

أليس شارون هو من دمّر مخيّم جنين على رؤوس سكّانه؟ هذا هو سلامه، فما الحجة التي سيقنع بها الأب المفجوع. .شارون ؟.

أترون الفرق بين خطاب الانتفاضة الكبرى الأولى (المغدورة )، وخطاب ما بعد أوسلو ؟!

بعد يومين من ثناء رئيس الكنيست صرع عدد من فتيان، ربّما عرفاناً، وتوكيداً للشكر، أو لعلّهم هناك _ اقصد شركاء السلام !! _ يحتاجون لقطع غيار من أجساد فلسطينيّة فتيّة...

الأطفال الإسرائيليون الخمسة الذين وزّعت عليهم أعضاء الفتى الفلسطيني أحمد اسماعيل الخطيب، ابن مخيم جنين، والذي قتل في العيد، وانتزع حياته جنود اعتادوا قتل الفلسطينيين، هل سيكونون رحيمين بأطفال الفلسطينيين عندما يكبرون، كنوع من رّد الدين لمن أنقذهم من الموت بعد أن سرق آباؤهم حياته؟!

هل ستنحاز المرأة ذات الأربعة وخمسين عاماً ضد الاحتلال، وتدين شارون، وموفاز، ونتنياهو، وبيرس، وباراك، ومكسّر العظام رابين،  على جرائمهم بحّق الفلسطينيين الطيبين الكرماء؟

ثمّ من أعطى لذلك الأب الحّق في التبرّع بأعضاء الابن؟

ألم يقتل ذلك الفتى لأنه فلسطيني؟. 

 كان الطبيعي أن يتشاور مع أهل مخيّم جنين، مع أبناء وبنات الشهداء الذين دفنوا وهم أحياء تحت جنازير الجرّافات. كان عليه أن يتشاور مع القيادات الوطنية في منطقة (جنين) كما فعلت أسرة ناصر الهوّاش، لا أن يتصرّف على أنه صاحب الحّق بأعضاء الفتى الفلسطيني الشهيد، ويدلي بتصريحات تليق بقيادات (أوسلو)...

من يتابع أخبار فلسطين لن يفاجأ بالفتيات، والفتيان، الذين قتلوا بدم بارد بعد تبرّع ذلك الأب بأعضاء الابن الفلسطيني!. ..

تأملت صورة الفتى المغدور برصاص قنّاص مجرّم رضع الكراهية والعنصريّة مع حليب أمّه، والفتى يتأبّط قيثارته، وحول ملصقه يتحلّق أصدقاؤه الفتيان _ من منهم سيقتنصه جنود الرّب ليكون قطع غيار؟! _ وبعضهم يحمل دمية على هيئة رشّاش...

هؤلاء هم من يصونون ذكرى أحمد الفلسطيني، وهم من لا يباركون ما فعله ذلك الأب، فهم بخبراتهم مع أولئك الجنود، بما رأوه، وما عانوه يعرفون أن السلام لا يتحقق بالتبرّع بأعضائنا، وبحملات دعاية مبتذلة ذليلة، ولكنه يتحقق بما سيحمله أولئك الفتيان عندما تطول قامتهم شبراً،  لينتزعوا به حريّة أرضهم، ويصونوا به سلامة أعضاء أجسادهم التي خلقوا بها، والتي بها يدفنون في ثرى فلسطين الطهور. ..

 

■ رشاد أبو شاور