طريق الجزئيات الصغيرة متى ينتهي ؟ معبر رفح..
وأخيراً منّ الأمريكيون والإسرائيليون على السلطة الفلسطينية باتفاق حول معبر رفح، وهذا يفرح الفلسطينيين طبعاً، لأن التكوم الفلسطيني على المعبر مع مايرافقه من إذلال غير طبيعي، وغير إنساني. والاتفاق لايحل المشكلة، وإنما يجعلها أسهل.
وإذا بقيت القضية الفلسطينية تحل عن طريق الجزئيات الصغيرة التي من نوع معبر رفح، فبعد ألف عام أو أكثر، يكون للفلسطينيين بعض حقوق ديمقراطية في إسرائيل الكبرى أو الصغرى، لقد وضعت القضية الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو في تسعينات القرن الماضي في اليد الأمريكية ـ الإسرائيلية، وهاهي النتيجة التي يلمسها الفلسطينيون اليوم، كان المنطق الذي بدأ ينمو منذ ستينات القرن الماضي هو أن القضية ستبقى تراوح في مكانها، مالم يوجد لها تحريك، والتحريك هو القبول بالعروض الأمريكية ـ الإسرائيلية، والانتقال منها إلى أوضاع أخرى.
والأمر الذي كان يجهله أو يتجاهله، ذلك المنطق، هو أن تسليم القضية إلى الإدارة الأمريكية، تعني في الوقت نفسه استحالة الانتقال إلا إلى الأوضاع الأسوأ، وهذا ماحصل.
ذهب الدم الفلسطيني في الانتفاضة الأولى هدراً، وكذلك الأمر في الانتفاضة الثانية، انحلت منظمة التحرير الفلسطينية عملياً، ولم يعد لها سوى وجود نظري. ألغي ميثاق منظمة التحرير بصرف النظر عن الرأي فيه، ألغي قرار المنظمة بإعلان الدولة الفلسطينية في مؤتمرها في الجزائر في ثمانينات القرن الماضي، غابت عن المسرح السياسي إلا في التصريحات، المطالب الفلسطينية المشروعة، الدولة الفلسطينية، حق العودة، حق تقرير المصير..إلخ، وأصبح الجدل يدور حول تفاصيل الأمن الإسرائيلي، وإلى أي مدى تقوم السلطة الفلسطينية بـ«واجبها» في هذا المجال. توفي الرئيس ياسر عرفات سجيناً محبطاً، وعقد الأمل الأمريكي ـ الإسرائيلي على الرئيس محمود عباس، كي يفكك البنية التحتية للإرهاب، أي كي يلاحق المقاتلين الفلسطينيين، بل المطلوبين من إسرائيل، حتى دون أن يكونوا مقاتلين، ويسجنهم، أو يسلمهم لإسرائيل، ويجرد المنظمات الفلسطينية من أسلحتها، وحدث من قبل أن سجنت السلطة الفلسطينية مناضلين فلسطينيين، فما يزال السعادات ورفاقه يقبعون في سجن أريحا، رغم أن السعادات أمين عام لفصيل فلسطيني مؤسس في منظمة التحرير. واخترعت مسألة الهدنة، لتحل محل تفكيك البنى التحتية للإرهاب، والاختراع سيكون فاشلاً في نهاية المطاف، لأن الهدنة بالمفهوم الأمريكي ـ الإسرائيلي هي إخماد العمليات الفلسطينية دون تقييد لليد الإسرائيلية، لا بالنسبة لاقتحام المدن والبلدان الفلسطينية، ولا بالنسبة للمداهمات والاعتقالات ولا بالنسبة للاغتيالات، التي تؤلف جرائم حرب بكل المقاييس، السلطة الفلسطينية لايقع تحت سلطتها أي شيء، كل شيء في يد العسكرية الإسرائيلية، أقصى مايدخل في صلاحيات السلطة هو مساعدة العسكرية الإسرائيلية أمنياً، مساعدة تبقى غير مشكورة من جانب إسرائيل، ومعتبرة ناقصة، لأنها لاتفكك تماماً البنى التحتية للإرهاب.
اتفاقات أوسلو ومضاعفاتها غير أنها أضرت بالشعب الفلسطيني، فإنها سمحت بصعود موجات عربية موالية لأمريكا، تطرح بأن المسألة الفلسطينية قد حلت ولم يعد ثمة مبرر للعداء «الشكلي أصلاً» مع إسرائيل، وبذلك أحيطت القضية الفلسطينية بحصار عربي إضافة إلى الحصار الدولي.
تطبيق اتفاقات أوسلو أصبح بالنسبة للأوضاع الفلسطينية المأساوية الحالية هدفاً، لأن الإدارة الإسرائيلية انسحبت منها، وقتل أحد مهندسيها (إسحق رابين) وفقد مهندسها الآخر (شمعون بيريس) جزءاً كبيراً من اعتباره السياسي، بل ما يطبق الآن هو أسوأ بكثير مما كان يطبق في جنوب أفريقيا العنصرية ويفاقم المأساة الفلسطينية الممارسات الخاطئة، التي صدرت عن الفصائل الفلسطينية أو بعضها، كان الانتحاريون الذين يفجرون أنفسهم مجبرين على تسجيل أشرطة يذكرون فيها هوياتهم وقراهم ومختلف المعلومات الفردية عنهم، فكانت العسكرية الإسرائيلية تهاجم قرية الانتحاري وتهدم بيته وتشرد عائلته وربما عائلات جيرانه، عدا الاعتقالات المرافقة لذلك، وتلك الأشرطة لم يكن لها مبرر سوى نرجسية الفصيل، الذي يريد أن يثبت أنه هو الذي أرسل الانتحاري.
أيضاً أرسل انتحاريون أطفال، وانتحاريات نساء، منهن واحدة حامل، وهذا إذا لم نصفه بما يستحق، فإنه غاية في عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني، لأن النضال ليس فقط ضرب العدو، وإنما الشعور بالمسؤولية تجاه الشعب.
والانتحار نفسه قد يكون مبرراً ضد القوات الإسرائيلية، أو ضد الجدار، أو ضد الاستيطان (ضد بناء المستوطنات لا ضد المستوطنين)، أما أن يكون ضد المدنيين، وأن يتسبب برد همجي للعسكرية الإسرائيلية يشمل هدم البيوت، وقتل واعتقال أضعاف المدنيين الإسرائيليين الذين يقتلون، فإنه أقل مايقال فيه، إنه اجتهاد يعود بالضرر الكبير على الشعب الفلسطيني وعلى النضال الفلسطيني، ونتائجه اليوم ملموسة.
طبعاً الشهداء شموع في التاريخ الفلسطيني، و... المرء لذكراهم، أما من يرسلونهم، فيتحملون مسؤولية تاريخية تجاه الشعب الفلسطيني، وتجاه مستقبله، الذي أصبح اليوم على الكف الأمريكية.
هل بالمستطاع بعد هذه التطورات المؤلمة أخذ المبادرة من جديد بإعادة الحياة إلى منظمة التحرير، كمنظمة نضالية، تمارس دورها التاريخي خارج الأراضي المحتلة وداخلها، باستقطاب الفلسطينيين في مشروع نضالي بعيد الأفق، لايتمحور حول ذاته، وإنما يمد يده إلى العالم، إلى الذين يناضلون ضد العولمة، ضد الاحتلال، ويكون نضال السلطة الفلسطينية جزءاً من النضال الأوسع، ويطلق الجميع نهائياً التوجه نحو الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، فليس لدى هاتين الإدارتين سوى عنجهية الاحتلال وضراوته.
في أربعينات القرن الماضي كانت تونس ترزح تحت الاستعمار الفرنسي، وكان يقود النضال فيها حزب الدستور التونسي، الذي كان رئيسه حينذاك الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، الذي في أيام النضال زار الأردن، وقابل الملك عبدالله الأول، وشرح للملك الأوضاع في تونس، ومظالم الاستعمار....إلخ، وطلب منه باعتبار الملك موالياً للبريطانيين، أن يتوسط لدى «أصدقائه» كي يتوسطوا لدى فرنسا لإعطاء تونس الاستقلال، كان بورقيبة يتكلم على الطريقة الفرنسية بحماسة، وبتحريك يديه كثيراً أثناء الكلام، طيب الملك خاطره، وصرفه، وبعدما خرج التفت الملك إلى حاشيته مبتسماً وقال: الحقيقة أن الاستعمار الفرنسي يجنن؟
الإدارات العربية الموالية للإدارة الأمريكية لاتستطيع نفع الفلسطينيين في شيء، لاتستطيع التوسط لدى الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية لإعطاء الفلسطينيين شيئاً، تستطيع فقط الضغط على الفلسطينيين لإعطاء الإسرائيليين والأمريكيين أموراً كثيرة، وأهمها بذل الجهود لحفظ الأمن الإسرائيلي.
للانتهاء من قصة الأمن الإسرائيلي ثمة طريق وحيد،هو الاستقلال عن الإدارة الإسرائيلية، الاستقلال المعنوي والرجوع إلى منظمة التحرير الفلسطينية، حيث يجب أن تكون هي البيت الفلسطيني، وهي القيادة النضالية للشعب الفلسطيني، لقد احترمها العالم كثيراً في الماضي، ويجب أن تعيد بناء ذلك الاحترام، الذي أفقدتها إياه اتفاقات أوسلو.
حتى الترتيبات المتعلقة بمعبر رفح ليست مضمونة، وستنتهك في أي وقت، لأن المسألة متعلقة بالمزاج الإسرائيلي، ومثلما العسكرية الإسرائيلية أعطت، فيمكنها أن تأخذ، هذا إذا اعتبرنا أنها أعطت.
■ محمد الجندي