الاستقواء بالحضيض(ج3)

النزعات ما قبل الوطنية بنات للأم نفسها، وهي على علاقة احتراب مع النزعة الوطنية والديمقراطية والمؤسساتية ؛ فالطائفي مثلاً هو مذهبي قطري مِنطقي عشائري عائلي عياب محب للفتنة لا وطني ولا ديمقراطي ولا مؤسساتي . وهو ما يمكن التعرف عليه بقليل من الملاحظة. والكلام عن الذين يكتوون بنار هذه النزعات لا عن المستفيدين منها. فلنختبر صحة هذا الكلام.

افتتاحيات «الرأي» والرمز الأدق في التعبير عنها وعن الموضوعات، تحدثوا عن مصالح  طائفية وعن حوار مع طوائف لبنان . كما زينوا زعامات لبنانية مغرقة في الطائفية والانعزال والدفاع عن وجهي العملة الفاسدة ؛ عن العملاء الفارين إلى إسرائيل والقرار 1559. الجمع بين هذه الصفات في أشخاص تلك الزعامات يكفي كدليل، لكن لنحاول أكثر .

مصادر حزب الشعب تلك تستغل ميل الإنسان الطبيعي إلى التغيير فتحتفي كثيراً بالتغيير (الحاف) المجرد من الوصف والإضافة. وهي تشحن هذا الاحتفاء بالدعوة إلى التغيير المستجيب للمصالح الأمريكية صراحة . ومع فرض أن المحتفى به هو التغيير الوطني الديمقراطي نجد تعارضاً بين النزعتين الديمقراطية والوطنية بحاجة إلى تنظير، هو مشوش وغير عقلاني بالضرورة. لذا نقرأ في العدد 42 من الرأي: لا تتعارض الديمقراطية مع الوطنية، حين لا تكون هذه هوية وانتماء وأرضاً وحدوداً فقط، بل أيضاً مواطنة وسيادة قانون وحرية وديمقراطية.

1 -  من الذي ادعى أن الديمقراطية تتعارض مع الوطنية ؟! إنها تتعارض إذا أردنا لها. وفي هذه الحال تفقد روحها وتبدل موقعها ووظيفتها .

2 - كيف تكون الوطنية أرضاً وحدوداً ؟! تتجلى الوطنية بالدفاع عن الحدود والأرض، لكنهما ليسا الشيء نفسه . وكيف تكون الوطنية مواطنة وسيادة قانون وحرية  وديمقراطية ؟! الوطنية شيء وجداني موجود عند الناس بدرجات، وانتزاعها من الشخص يعود إلى مدى قابليته، أما المواطنة فيمكن أن تمنح وتغصب، فهي شيء خارجي كسيادة القانون والحرية والديمقراطية .

3 - ما معنى ألا تتعارض الديمقراطية مع الوطنية عندما تكون الوطنية هي الديمقراطية ؟!

4 -  أيتحدث عن وطنية الحكام الاستبداديين فينكرها عليهم؟ أم عن وطنية رعاياهم ينكرها منهم لأنه لا توجد وطنية خارج فضاء المواطنة؟ (*) بكل بساطة يمكن القول: الموقف الوطني يكون منتجاً أكثر بقدر ما يكون ديمقراطياً وبالعكس، أو: الوطنية هي جذر  الدفاع عن المواطنة وبالعكس، فهل هذا صعب ؟ الكاتب يغمغم لأنه يرى جواز انفصال وتقديم الديمقراطية عن وعلى الوطنية ما تجلى احتفاء بالانتخابات العراقية اليوم أو السورية زمن الفرنسيين. وهو ما يترجمه "رمز المعارضة" بقوله أن الشعب العراقي لم  يدافع عن سلطة كانت تقمعه ولم تكن مقاومة، والشعب السوري جائع ومقموع ؟ فهم يتسللون من الفاصل الدقيق بين التفسير والتبرير؛ فنحن يمكن أن نقول : القمع والفساد يدمران مناعة المجتمع ويجعلان مقاومته مريضة بأمراضه، عندها تكون عيننا على المقاومة ونسمي التقاعس عنها مرضاً، ويمكن القول : الشعب لا يدافع عن سلطة تقمعه وتجوعه، فنجعل المقاومة دفاعاً عن سلطة نكرهها، ويتضمن كلامنا دعوة ورفع حرج عن التقاعس.

ومنذ فترة يتجاوز رمز المعارضة التلميح بقبول المساعدة الأمريكية في تغيير النظام إلى التصريح به. فهل أمريكا دولة معادية تتهددنا كمواطنين ؟ فكيف نسمح بدخول قواتها تحت أي وعد أو حجة، وما معنى دعوة المواطن المنكوب بها إلى قبولها شريكاً محتملاً ؟! وإذا كان الجواب بلا، فهل يستطيع أن يرى في إسرائيل دولة معادية تتهددنا ؟!. تقول الموضوعات تحت عنوان احتفالي هو "التغيير آتٍ" أنه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول أعادت أمريكا النظر في سياستها الشرق أوسطية " لترى انتهاء مصلحتها في دعم الاستبداد العربي الذي استمر حوالي نصف قرن، ولتبدأ في تشجيع الإصلاحات والانفتاح على المزيد من المشاركة السياسية، لتجفف البيئة التي ترى فيها منبعاً للتطرف . مثل هذا التغيير يلبي احتياجات السياسة الأمريكية في عصر العولمة، ويهدف إلى إدخال إسرائيل في بنية المنطقة، وإعطائها دوراً أكبر في صياغتها والتأثير فيها . لذلك فهو يسعى إلى إيجاد قوى تتلاءم مع الوضع الإقليمي المنشود، وتقود بلادها على إيقاع الوضع الدولي الجديد، بالاستجابة للقوى المسيطرة فيه .

بذلك فقد النظام متكأً خارجياً كبيراً، حاول النظام استدامته من طريق التأكيد على ما يجمعه بالسياسة الأمريكية، حتى الجديد فيها، وهو نهج الحل الأمني لكل ما يطرأ، في الداخل أو الخارج" . فما الذي تقوله هذه الفقرة ؟

1 - قوى الإصلاح والانفتاح على المشاركة السياسية لا تمانع إدخال إسرائيل في بنية المنطقة وإعطاءها دوراً أكبر، ولا تكترث بالخطر الجاثم على الحدود. هنا يوقعنا هذا المعنى المكرر في تناقض فج؛ فإذا كان الجديد في السياسة الأمريكية هو الحل الأمني لكل ما يطرأ، وإذا كان النظام يحاول استدامة متكأه الخارجي من طريق التأكيد على ما يجمعه بهذا النهج، فكيف يستقيم هذا مع  تشجيع الإصلاحات والانفتاح على المزيد من المشاركة السياسية ؟!. لذا في النسخة الثانية حل التغيير والتبديلات في الأنظمة غير مضافة إلى الاستبداد مكان الإصلاح والمشاركة، لكن المعنى بقي مضمراً، فالعملية لا تعدو كونها عملية تهذيب للصياغة.

2 - أمريكا كانت معنية بدعم استبداد النظام دون تلاؤمه واستجابته ومواقفه منها ومن إسرائيل، ولكن إذ استجدت مصلحتها " بتصفية ما تسميه السياسة الدولية بقضية الشرق الأوسط " ـ حسب الموضوعات ـ وتجفيف البيئة المولدة للتطرف، أصبحت مهمومة بالاستبداد وبعدم تلاؤم النظام واستجابته , ولذلك بدأت تسعى لإيجاد قوى تتلاءم مع هذه المستجدات . أما الكاتب فلا يعنيه لا من قبل ولا من بعد الموقف من إسرائيل وأمريكا، أو لا يعنيه أن تأتي أو لا تأتي إلى قيادة البلاد "قوى تتلاءم مع الوضع الإقليمي المنشود وتقود بلادها على إيقاع الوضع الدولي الجديد بالاستجابة للقوى المسيطرة فيه" ؛ فالمهم أن التغيير آت لأن النظام فقد متكأه الخارجي . هو لا يقول إنه لن يتصالح مع نظام استبدادي ولو كان وطنياً فهذا أمر معقول، بل لا يهمه أن تأتي قوى تتلاءم مع الوضع المنشود إسرائيلياً وأمريكياً . لهذا لا يأتي على أي ذكر لمقاومة هذا الهدف في النسختين، وهو تجاهل بنفس خطورة الإقرار بوطنية النظام في سياق كهذا. وهو ما يذكرنا بشماتة افتتاحية العدد 33 من الرأي بالنظام الذي لفحت وجهه نار الاحتلال في العراق، باعتبارها التلاؤم والاستجابة ضرورة وليست خياراً  .

ما قيمة كلام الساعي إلى المتكأ الأمريكي عن محاولة النظام استدامة المتكأ نفسه؟! إنه يستنجد بالانفعالات، يفرحنا بفقد النظام لمتكئه الخارجي ليمرر ما سبق مع فرحنا ومع استنكاره اعتماد النظام الحل الأمني، ولا يهم بعدها أن يناقض نفسه والواقع فيجعل الحل الأمني مستجداً على سياسة أمريكا. أم أن الفرق بينه وبين النظام هو أنه بخلاف النظام يعلن تلاؤمه واستجابته!!.

وهو يجانب العقل عندما يجعل اهتمام أمريكا بموقف النظام منها ومن إسرائيل أمراً مستجداً، فمنذ متى كانت الدول غير مهمومة بمقاومة الآخرين لسياستها عداك عن توفير المتكأ لهم ؟!. 

مثل هذه الفقرة يفسر كيف يكون المرء غاندي إزاء الاحتلال وهتلر إزاء المجتمع، فالتحرير السليم هو التحرير السلمي، والصراع المسلح مع الاستعمار الفرنسي فعل قلة متطرفة، أما قبول مساعدة أمريكا بكامل عدتها في فرض برنامجه على المجتمع فأمر مشروع.

(*) بتاريخ  7 آب2004، ترددت في منتدى جمال الآتاسي للحوار عدة مرات عبارة «لا توجد وطنية خارج فضاء المواطنة الحقة بصفتها نسيجاً حقوقياً واجتماعياً».

 

■ أكرم إبراهيم