سورية و«حريرية» العراق..!

لدواع دبلوماسية على الأرجح اعتمد الرئيس بشار الأسد اللباقة في التعبير عن استياء السوريين الذين علموا بتفاعلات سلوك الحكومة العراقية «الوقح» على خلفية تفجيرات واحد من أيام «أربعاء الرماد» المتكررة في بغداد (19/8) عندما قال «إن اتهام سورية بقتل عراقيين وهي تحتضن 1.2 مليون منهم هو أمر لا أخلاقي».. موضحاً أنه «اتهام سياسي يفتقر للأدلة القانونية» وذلك  في وقت تؤكد فيه الحكومة العراقية ذاتها أن الأمر لايزال قيد التحقيق..

هكذا، وبعد فترة وجيزة من انتهاء زيارة المالكي لدمشق وتوقيعه دزينة اتفاقيات أرادت الحكومة العراقية، أو البعض فيها ومن يقف خلفهم، الاستثمار سياسياً في الدم العراقي المسفوح لمصلحة طبخة إقليمية دولية وتحويل «قرار اتهامي ظني» تعمدوه بحق سورية إلى مجلس الأمن دفعة واحدة، مع المطالبة بإقامة «محكمة دولية»، بعد تجاهل ما تردد في وسائل الإعلام الدولية من أن منفذي الهجوم الدامي كان قد تم الإفراج عنهما من سجن «بوكا» الذي تديره قوات الاحتلال في جنوب العراق..!

والمفارقة بعد فرض لوحة الإحداثيات الجديدة، المتضمنة لائحة الاتهام ومسار القضية، أنها تحولت إلى عنوان رئيسي للحراك الدبلوماسي الذي شهدته دمشق طيلة الأسبوع، على المحاور السورية مع كل من أوربا وإيران وتركيا وحتى قبرص، ويتوقع أن تستمر مع فنزويلا في فترة طباعة هذا العدد:

وزير الخارجية التركي أوغلو يصل دمشق «للوساطة» حاملاً معه جملة مقترحات تشكل «منطلق» الحراك القائم على مبدأ سياسة «الأمر الواقع»: «إقناع» حكومة بغداد، الرازحة تحت الاحتلال، «بعدم تحويل الملف إلى مجلس الأمن»، و«عقد لقاء بين وزيري خارجية سورية والعراق» للعمل على حل القضية، و«تشكيل لجان مشتركة لبحث طلب العراق تسليم مطلوبين»..  !

نظيره الإيراني متقي يصل لغرض الوساطة ذاتها، وإن من موقع مختلف، ليدفع مع المسؤولين السوريين بالبراءة من دم العراقيين وليجددوا معاً إعلان الانتصار لأمن العراق واستقراره بعدما أصبحت التهمة جاهزة، وهي التي تبتغي في وقاحة سافرة تبييض صورة الاحتلال المنسحب إلى قواعده في محيط المدن العراقية من خلال البحث عن شماعة تبرر لقوات الاحتلال جرائمها وتجعل العراقيين يتندمون على أيام وجودها في داخل المدن على صيغة «شفتو بعد ما طلعنا شو صار فيكم وشلون ما قدرت أجهزتكم الأمنية ضبط الأمن حتى في أكثر المناطق منعة وحصانة»..!

أما خافيير سولانا المنسق الأعلى للشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوربي فيأتي ضمن هذا الجو المحتقن افتعالاً ضد سورية ليغطي مؤتمره الصحفي مع الوزير المعلم طيفاً واسعاً جداً من القضايا التي تُختزل في نهاية المطاف من وجهة نظر سولانا ومن يمثله في قضيتين: ممارسة الضغط باستغلال كل هذه القضايا على سورية بخصوص اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر الشهر الجاري الذي تريد واشنطن وتل أبيب وبروكسل تخصيصه كورقة «دبلوماسية» أخيرة ضد إيران، وهو ما كان واضحاً فيه سولانا  لجهة طلب الدعم السوري المباشر بخصوصه تحت دعوى «ضرورة إنجاحه»، وثانيهما دغدغة مشاعر بعض المسؤولين السوريين والتلويح لهم بالجزرة الممضوغة كثمن مقابل: أمله في توقيع اتفاق الشراكة السورية الأوربية أواخر العام الجاري..!

في المقابل كان وزير الخارجية وليد المعلم، الذي يعرف من يقف وراء كل هذا التحريض الجديد، واضحاً: إن أردتم تحويل الملف إلى مجلس الأمن فلتكن هناك محاكمة دولية تغطي كل الجرائم التي عانى منها العراق منذ غزوه في 2003، وتجرم كل من لا يريد علاقة طيبة بين الشعبين السوري والعراقي... علماً بأن هؤلاء الـ«كل من لا يريد» ليسوا بالتجسيد المادي حكام اليوم من «حريرية العراق» المنقلبين على صدام وأسيادهم فيما وراء البحار فحسب، بل إنهم بالممارسة السياسية يستلهمون منطق وأسلوب الديكتاتورية البائدة بخصوص طبيعة العلاقة مع سورية وضرورة ضمان عدم استقرارها في الذاكرة الشعبية. والجميع يذكر أن  صدام نفسه هو من قام بتمزيق مسودة اتفاق الوحدة بين سورية والعراق لعام 1978 بعدما انقلب على البكر في عام 1979.

وإذا كان هذا هو وضع الأدوات، فما هو وضع السادة والعقول المدبرة في واشنطن، وما هي دوافعهم لتفجير قنبلة أكثر من صوتية تصبح سورية بعدها في «موسم محاكمات دولية 2009»، في وقت يجرون فيه محاكم صورية لجنودهم تنتهي غالباً بالتبرئة عن مئات المجازر وجرائم التعذيب والاغتصاب والتشريد والقتل الجماعي والفردي المتعمد، وفي وقت لم يحركوا فيه ساكناً لتفجير مقر الأمم المتحدة واغتيال ممثلها في بغداد سيرجيو دي ميلو في الأشهر الأولى للغزو عندما أرادت واشنطن العراق بلا منازع أو رقيب؟!

بات من المعروف أن ساسة واشنطن منذ أن قرروا غزو العراق لم يريدوا فقط إزاحة النظام والاستيلاء على بلاد الرافدين وثرواتها ومقدراتها وذاكرتها الحضارية، وإنما في إطار مشروعهم الكوني، من جهة، وأزمتهم المستعصية من جهة ثانية، أرادوا تحويل أرض العراق إلى «منصة انطلاق إقليمية» لإطلاق «صواريخ مخططاتهم» السياسية، وحتى العسكرية عند الضرورة، على اعتبار أن السيطرة على النفط العراقي ربما تحل جزءاً من أزمتهم ولكنها لا تحلها كلياً (ولننظر إلى الاستعصاء في فلسطين المحتلة- غزة، ولبنان- تشكيل الحكومة ومحكمة الحريري، وأفغانستان- قصور الإستراتيجية الأمريكية الجديدة وتعزيز القوات، وكذلك الأمر مع إيران وسورية)، بمعنى أن العراق من وجهة نظر واشنطن التي لا تزال محكومة بالحرب وتوسيع رقعتها هو منصة انطلاق ضرورية في تكاملها مع غيرها لتفجير المنطقة الممتدة من الصين وآسيا الوسطى إلى المتوسط، نزولاً حتى البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وصولاً إلى أمريكا الوسطى والجنوبية، على اعتبار أن تفاعلات الأزمة الرأسمالية مستمرة في تفاقمها خلافاً لكل التصريحات التضليلية في تفاؤلها، عكس ذلك.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.