عن انحطاط السياسة الأمريكية وتفسخ حاملها! من أين لأوباما أن يكون اشتراكياً؟
ينشغل اليساريون منذ أشهر بتوضيح مدى سخافة الادعاء بأن أوباما اشتراكي. ورغم أنه ادعاء مثير للسخرية، ما زال يتكرر في النقاشات الجارية، غالباً بالصيغة التي وضعها رئيس الحزب الجمهوري، محذرة من «قبضة السلطة الاشتراكية» التي يمثلها الحزب الديموقراطي! فلم يتوقف، مثلاً، السيناتور جيم ديمينت، طيلة عام مضى، عن اتهام أوباما بأنه «أفضل مسوِّق للاشتراكية عالمياً»، أما الاقتصادي المحافظ دونالد. ج. بودرو، في جامعة جورج مايسون، فيعترف بأن أوباما ليس اشتراكياً، لكنه ينبّه في ذات الوقت من أن «الملامح الاشتراكية» لأمثاله من السياسيين «لا تقل شأناً عن الاشتراكية ذاتها».
ترجمة وإعداد: موفق إسماعيل
غير أن أفضل ما في هذا الادعاء المضحك أنه يدفعنا للتفكير بتباشير الاشتراكية وانفتاح آفاقها لحظة وصول الأزمات الاقتصادية والحيوية إلى ذراها الحرجة. وعلى أية حال، الاشتراكية مثل كل فكرة سياسية مركبة، تحمل معاني مختلفة لأناس مختلفين، إنما توجد مفاهيم مبدئية وثابتة في السياسة الاشتراكية يسهل تمييزها، أهمها:
- تحكم العمال بطبيعة عملهم وظروفه.
- الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، ولأهم منشآت التراكم الرأسمالي في المجتمع.
- التوزيع المتكافئ للثروة الاجتماعية.
نبع الولاء ومصبه
بالتأكيد لم يحاول أوباما يوماً أن يظهر مدافعاً عن أي من المبادئ الثلاثة. بل كان فعلياً يناقضها مثلما يناقضها جميع السياسيين المطلّين علينا من خلال وسائل الإعلام السائدة. الأمر الذي لا يفاجئنا، نظراً للحالة المتردية التي وصل إليها مجتمعنا في ظل هيمنة الشركات الكبيرة عليه، هيمنة تدور من خلالها عجلات الرأسمالية. فمن أين لأوباما، الذي لا يمكن وصفه حتى بـ«الرأسمالي التقدمي»، أن يكون اشتراكياً؟ وهو جزء من معسكر الليبرالية الجديدة التي قوّضت آخر ما تبقّى من ملامح الديموقراطية الاجتماعية المحدودة التي سادت الولايات المتحدة قبل حقبة ما سمّي بـ«الثورة الريغانية»؟
باختصار، في حين أن خطة أوباما التحفيزية ذات طبيعة «كينزية»، لا يوجد في سياسة إدارته ما يوحي بأنه يميل، ولو قليلاً، نحو اليسار، مع أن الأزمة المالية وفرت له الفرصة. غير أنه بدلاً من التقاطها، واصل ما بدأه بوش، محوّلاً الثروات إلى البنوك والمؤسسات المالية الأخرى. وقبل ذلك، اعتمد في تركيب قوام طاقمه على الشخصيات النيوليبرالية في «وول ستريت»، مثل تيموثي غايثنر المعيّن وزيراً للخزانة، ولورانس سومرز مديراً لمجلس الاقتصاد القومي، في إشارة واضحة لأمريكا الشركات الكبرى بأن الديموقراطيين ملتزمون بتدعيم أسلوب توزيع الثروة القائم، وتعزيز السلطات القائمة، وهنا بالضبط منبع نهر ولائه ومصبّه.
وفيما يتعلق بمعالجته القضايا الملحّة الأخرى، فأي رئيس اشتراكي كان سيكافح من أجل تأميم البنوك، وبناء نظام رعاية صحية وطني، وإنهاء الاحتلال الامبريالي للعراق وأفغانستان. أما اتهام أوباما زوراً بأنه اشتراكي دون أن يقوم بأي إجراء من هذا النوع، فما هو إلا دلالة على مدى انحطاط السياسة الأمريكية على منحدر اليمين. فإنْ هي إلا الرأسمالية بعينها، مندفعة بكل ثقلها وبأقصى سرعتها نحو الهاوية!
التاريخ المغيّب
حاولت جاهداً أن أشرح لصحفية اندونيسية خلفيات اتهام أوباما بالاشتراكية، لكنها بدت غير مقتنعة وهي تسألني «كيف يصدق الشعب الأمريكي أن أوباما اشتراكي؟ ولماذا يلصق هذه الصفة بسياسةٍ، يتضح فيها أن لا علاقة لها بالاشتراكية»؟ فأجبتها ببساطة «أهلاً بك في الولايات المتحدة الأمريكية، البلد الذي يكاد لا يعرف شيئاً، لا عن تاريخه ذاته، ولا عن العالم».
بالعودة إلى الماضي، نجد أن الاشتراكية وغيرها من نظريات النقد الجذري للرأسمالية جزء من تاريخ الولايات المتحدة. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تنظّمت حركة عمال الولايات المتحدة ضد توسيع سلطة الشركات الكبيرة، وطالبت بإدارة العمال للمعامل والمصانع. هذه الأفكار وحركاتها لم يزرعها «محرّضون دخلاء من الخارج»؛ بل نشأت أصيلة على التربة الأمريكية، من دون التخفيف من شأن مساهمات المهاجرين إلى الولايات المتحدة في تطوير الحركة الاشتراكية وتعزيزها، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل تاليه.
وفي حينه، اعتبر أرباب العمل وأصحاب الشركات هذه الحركة تهديداً لهم، وتعاملوا معها باستخدام عنف الدولة، وعنف القطاع الخاص. وبالرغم من النجاح الجزئي لمحاولات سحق الحركة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلا أنها استطاعت النهوض مجدداً أثناء فترة «الركود الكبير» منتزعة حقها بإقامة تنظيماتها. وإبان مرحلة الانتعاش بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح بإمكان الإدارة تمييع الحركة العمالية (لفترة محدودة كما تبين) مقابل حصة أكبر من كعكة اقتصاد متسارع النمو. وفي خضم هستيريا الحرب الباردة غابت عناصر الرؤية النقدية الجذرية عن الحركة العمالية الرسمية نهائياً. لكن الأفكار بقيت حية ترعاها جماعات صغيرة متفرقة وأحزاب وأفراد منتشرين في كافة أرجاء الولايات المتحدة.
لعل ندرة تدريس هذا الجزء من التاريخ في الولايات المتحدة هي إحدى الأسباب التي تسهل استخدام الناس لكلمة «اشتراكي» كتهمة مخيفة، وتجعل من السهل أيضاً أن يصدقوا أن الاشتراكية لا تتلاءم مع النظام الاجتماعي والسياسي الأمريكي، طالما أنهم لم يسمعوا بوجود التقاليد الاشتراكية في تاريخنا. أضف إلى ذلك تكتيك طرح البدائل المضللة الكلاسيكي. فمثلاً، إذا كانت الصورة المصغّرة للاتحاد السوفييتي تمثل الاشتراكية، والخيار الآخر الوحيد مقابلها هو الرأسمالية، فالكفة ترجح لمصلحة الرأسمالية، ويسهل تخويف الناس من احتمال احمرار لون أوباما!
وننسى أن الحملات المتواصلة لوأد النظريات الناقدة للرأسمالية، باستخدام العنف أو البروباغاندا، شكّلت على الدوام تهديداً للقيم الإنسانية الأساسية وللمبادئ الديموقراطية. إضافة إلى أن تعزيز الجشع وترسيخ القيم الفردية، كخصائص مميزة للحياة البشرية يشوهنا جميعاً ويمسخ مجتمعنا. كما أن تمركز الثروة في الرأسمالية يقوّض ملامح المجتمع الديموقراطية. في حين أن المبادئ الاشتراكية تؤمّن فسحة انطلاق نحو عالم مغاير، قائم على التضامن والتوزيع المتكافئ للثروة.
دوامة الموت
لا تتصف الرأسمالية بأنها وحشية ومعادية للديموقراطية فحسب، إنما تتصف أيضاً بأنها زائلة غير قادرة على الاستمرار، وهنا لبّ كل الموضوع. فالرأسمالية كنظام اقتصادي تقوم على مفهوم النمو غير المحدود، مع أننا نعيش في عالم محدود! إنها الجنون، بالمعنى الحرفي للكلمة.
وبهذا الخصوص، ليس من العدل حصر الحديث بالرأسمالية وحدها. فالنظام الصناعي يتصف بالتدميرية، سواء كان مطبقاً في مجتمع اشتراكي أو رأسمالي أو فاشي أو مهما يكن. أي أن المشكلة لا تنبع فقط من أسلوب تنظيم الإنتاج، بل تنبع كذلك من النمط الاقتصادي بحد ذاته، القائم على تكنولوجيا الطاقة العالية، واستخراج الثروات الباطنية، وتوليد كميات هائلة من المخلفات السامة. وطالما أن الاقتصاد الإستخراجي يلفظ بيئة النظام الذي يعمل ضمنه، حتى وإن كان اشتراكياً، يتعين علينا التخلي عن النمط بأكمله، لإتاحة المجال أمام إمكانية خلق مستقبل أفضل. وهذا بدوره ينسف مصداقية واحد من أهم مزاعم شرعنة النظام الرأسمالي، القائل بأنه أكثر الأنظمة الاقتصادية إنتاجية في تاريخ البشرية. فمستويات الإنتاجية العالية في الرأسمالية تحمل بعداً تدميرياً استثنائياً، خاصة في الحقبة المعاصرة المتميزة بضخامة الإنتاج الاستهلاكي.
وهكذا علقنا في دوامة الموت، حيث النمو مطلوب للخروج من الركود والكساد، ولكنه في الوقت نفسه يدفعنا إلى حافة الهاوية، أو يسرّع بغرق القارب، أو يزيد تسارع انحلال نسيج الحياة، تعددت المجازات ومسار الموت واحد. ولا توجد دعاية أو بروباغاندا قادرة، مهما تكن، على طمس منطق أنه لا يمكن إدامة أنظمةٍ طبيعتها الزوال. وكل دعوات السير في هذا الطريق هي بمثابة تشبث بشكل من أشكال الموت الجماعي، يُبقي الأولوية للسؤال: «متى الانهيار وما طبيعته؟».
وأخيراً، أعتقد أن المهمة المطروحة أمامنا تتطلب أكثر من مجرد «تجديد السياسات». لذلك يتعين علينا الاعتراف بقصور نمط الإنتاج الصناعي، وإدانة الإمبريالية كنظام إجرامي وغير أخلاقي، سواء في شكله الكولونيالي القديم، أو في نسخته الأمريكية المعاصرة. ومواجهة هذه اللحظة من التاريخ بجرأة التحرر الصعب من أغلال الثقافة المهيمنة، وجرأة طرق أبواب تراث المعرفة الجمعية للإنسانية، بما فيها تلك المعرفة الكامنة في الأديان المختلفة، الملتزمة جوهرياً بفكرة العدالة الاجتماعية.
روبرت جنسن: بروفسور في كلية الصحافة، جامعة تكساس، في أوستين.
روبـرت جـنسـن