انتصار كبير لشغيلة فرنسا... النقابات والطلاب يحذرون من مناورات الحكومة وألاعيبها إسقاط قانون عقد الوظيفة الأولى

بهدف احتواء أسابيع طويلة من الاحتجاجات والإضرابات الطلابية والعمالية والجماهيرية التي بدأت في 16 كانون الثاني 2006، وفي أعقاب اجتماع عقده الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قصر الإليزيه بباريس مع رئيس وزرائه دومينيك دو فيلبان وأعضاء بارزين في حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الحاكم أعلنت الرئاسة الفرنسية في العاشر من نيسان قرار إلغاء قانون الوظيفة الأولى واعتماد إجراءات جديدة باستخدام القوانين الحالية تتحدث عن آليات للاندماج المهني للشباب على أن يكون «من شأنها مساعدة الشباب المتضررين في البحث عن عمل».

وخلافاً للتصريحات الرسمية الصادرة على امتداد أسابيع الأزمة مؤكدة ومهددة من أن القانون لن يجري سحبه، قالت مصادر في الرئاسة الفرنسية إن دوفيلبان عرض على شيراك الموقف المتفق عليه بشأن التغييرات في قانون الوظيفة الأولى الذي يتيح للشركات التعيين بسهولة والفصل بسهولة لمن تقل أعمارهم عن 26 عاما دون إبداء أسباب خلال فترة تجريبية مدتها عامان «بهدف إتاحة المجال أمام الشركات لتجاوز القوانين التي تجعل من الصعب تسريح العمال والتي يسوقها أصحاب الشركات في كثير من الأحيان ذريعة لعدم تعيين موظفين جدد»، شكل إسقاط هذا القانون انتصاراً لحركة الرفض والاحتجاج الذي قاده في الشارع تحالف بين الطلاب والعمال الفرنسيين بمؤازرة من اليسار الفرنسي المعارض، في حين أكدت أوساط الطلاب على الجانب الطبقي في تلك المعركة محذرة من مغبة النشوة بانتصار صغير في سياق صراع شامل مع برامج قوى البرجوازية والليبرالية الجديدة المطبقة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية الفرنسية.

كما حذرت النقابات بدورها من أنها ستبقي على دعواتها للتظاهر والاحتجاج وتوسيعها ما لم يقدم شيراك حلاً واضحاً للأزمة، وما لم يقر البرلمان إلغاء القانون المذكور، لتؤكد أن المعركة هي معركة كسر عظم بين نقيضين طبقيين.

وفي بحثهم في جوانب الأزمة رأى بعض المراقبين والأكاديميين الفرنسيين أن الاحتجاج على القانون المذكور يكشف قلق الشباب من حال عدم الاستقرار، وأن هذه الحركة مرآة فئة أو طبقة عمرية، ينتابها شعور، مبرر، بأن المجتمع يقبل أفرادها كمستهلكين وطلاب جامعات فقط، من دون أن يوفّر لهم مستقبلاً، حيث جاء هذا القانون تدبيراً شديد الوطأة على التوزيع الاجتماعي للفرص والموارد والحظوظ في بلد يعامل الشباب منذ عقود كمتغير في معادلة السياسة ومصالحها.

فالشباب الفرنسيون نالوا حقوقهم في وظائف غير ثابتة، وبرامج تدريب من غير أجر، وفي مرتبات البطالة، في حين استمر توسّع الفرق بين مرتب بداية المهنة ومرتب نهايتها. ونشأ شعور بوجود حاجز بين الموظّفين، أو من هم «في الداخل» – وهؤلاء مهما بلغت مرتباتهم يمكنهم استباق الإجراءات واستئجار شقة وأخذ السلف على المرتب – وبين من هم «في الخارج»، أي عالم الضواحي، والطلبة من الطبقات الوسطى والفقيرة التي تعيش في ريبة متفاقمة، تصل البطالة في صفوف من لم يتجاوزا الخامسة والعشرين منهم إلى نسبة 40%، وهم جميعاً يعانون من أن موظف المصرف لا يثق فيهم، وصاحب الشقة يطالبهم بتسديد 6 شهور من الإيجار سلفاً، من باب الحيطة والحذر مما يزج شباب الطبقات الشعبية في أوضاع أليمة.

فضح نظام «رأسمالية المدراء»

معظم التحليلات والقراءات لتطورات المشهد الفرنسي تسترجع حركة 1968 الاحتجاجية في فرنسا والتي جمعت آنذاك حركات وشرائح عريضة نجحت في انتزاع حقوق حاسمة أو مكاسب عمالية واجتماعية كبيرة ولاسيما في ضوء وجود قوة المثل السوفييتي آنذاك واضطرار البلدان الرأسمالية إلى تقديم امتيازات تخفف من ضغطه في مجتمعاتها هي. ولكن هذه الدول ذاتها عمدت إلى سحب هذه الامتيازات التي حولتها النضالات العمالية إلى مكاسب، حيث لجأت الأنظمة الرأسمالية الحاكمة بعد غياب المثل وفي عصر العولمة المتوحشة إلى نسف حتى مفاهيمها التي تحدثت عن دولة «الرفاه الاجتماعي»

وفي هذا السياق يرى المحلل الأمريكي ويليام فاف أن المحتجين الفرنسيين صبوا جام غضبهم، على نمط معين من أنماط الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعتقد كثير من الفرنسيين إن لم تكن غالبيتهم، أنه يشكل خطراً على مقاييس العدالة بل وقيم المساواة، التي يعلي من شأنها الفرنسيون بصفة خاصة، لكونها قيماً رئيسية ومحورية في منظومة شعارات ثورتهم الجمهورية الثلاثة "الحرية والإخاء والمساواة".

غير أن إجراءات دوفيلبان حسب فاف أثارت، سؤالاً جوهرياً حول المستقبل القومي للفرنسيين، وهو سؤال كثير الشبه بتلك الأسئلة التي أثارها الاستفتاء على مسودة الدستور الأوروبي قبل عامين. وتدور تلك الأسئلة حول طبيعة مستقبل الاتحاد الأوروبي، والنمط الرأسمالي الذي يراد له أن يسود المستقبل الأوروبي (باتباع النموذج الأمريكي).

ويبدو أن الفرنسيين ليسوا وحدهم المنشغلين بهذا الهاجس والقلق. فقد انشغلت ألمانيا بحوار مماثل حول أنماط الرأسمالية، مع العلم أنها تعاني اضطرابات مقلقة في سوق عملها. بل انتقل الحوار حول أنماط الرأسمالية إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي نفسها، على إثر توسعة الاتحاد ورفع عضويته من 15 إلى 25 دولة. ومنذئذ فقد تراجعت المفوضية عن النمط "الاجتماعي" التقليدي الذي كانت تتبناه سابقاً. يضاف إلى ذلك الإضراب العمالي الذي شهدته بريطانيا مؤخراً، وهو الأكبر من نوعه منذ عقد العشرينيات، آخذين في الاعتبار أن القضية الرئيسية المطروحة فيه هي حقوق التقاعد.

وبالطبع فقد ظل الفرنسيون على معارضتهم الثابتة لنمط "الرأسمالية الوحشية" منذ أن لاح في الأفق البريطاني شبح ذلك الغول الرأسمالي الطاحن، في سماء ثورتها الصناعية في القرن التاسع عشر. وأشار آخر استطلاع للرأي العام الفرنسي عن نظام السوق الحر والرأسمالية الحرة إلى أن نسبة لا تزيد على 36 في المئة تعتقد أنه أفضل نظام اقتصادي على الإطلاق، ونسبة الألمان ليست بأحسن حال من الفرنسيين.

ويرى فاف أن السؤال الرئيسي يدور عن أي نمط من أنماط الرأسمالية يجري الحديث؟ ويجيب أنه منذ عقد سبعينيات القرن الماضي وإلى اليوم، طرأ تغيران رئيسيان على النمط الرأسمالي الأمريكي، الذي يقود العالم الآن. فقد جرى هناك تعديل على نمط «أمين الرهن أو الصفقة الجديدة القبلية»، وهو نمط رأسمالي أميركي ساد الغرب إبان السنوات المبكرة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد جرى تعديله بنمط جديد يقوم على المسؤولية وخدمة أهداف الشركات. وكان النمط الأول سابق الذكر يطالب الشركات بتحمل مسؤوليتها إزاء ضمان خير وسعادة ورفاه موظفيها. والمعلوم أن ذلك إنما كان يمثل شكلاً من أشكال الالتزام الاجتماعي، يتم الوفاء بالجانب الأكبر منه، عبر سداد الضرائب المفروضة على الشركات.

ولكن الذي حدث هو إبدال ذلك النظام بنظام أصبح فيه مدراء الشركات ملزمين بتحقيق قيم ربحية قصيرة الأمد للمالكين، تحكمه العائدات الربحية ربع السنوية ومعايرة أسهم المالكين. وكان الناتج العملي عن هذا التغيير، تزايد الضغوط على المدراء في وجهة خفض أجور العاملين ومزاياهم الوظيفية. وهي إجراءات أدت في بعض الأحيان إلى سرقة الحقوق المعاشية وغيرها من الجرائم الوظيفية والمهنية الأخرى. كما تلازمت الضغوط ذاتها مع تصعيد حملات سياسية، بغية إرغام الحكومات أو إقناعها بخفض الضرائب المفروضة على الشركات، مع العلم أن تلك الضرائب توظف في تمويل الخزانة العامة والإنفاق على مرافق الصالح الاجتماعي العام. وبإيجاز فقد طرأ تغير جوهري منذ عقد الستينيات، على النظام السائد سابقاً، بحيث يتمكن من سرقة الثروات من أفواه وجيوب العاملين الفقراء ومن خزانة الدولة، كي يصب في رصيد حملة الأسهم وخزانات الشركات، وهو نمط رأسمالي جديد يسميه فاف "رأسمالية مدراء الشركات" وهو يعتقد أن ما تشهده العواصم والمدن الأوروبية من اضطرابات لها علاقة بسوق وقوانين العمل، إنما هو تعبير عن فجوة خطيرة بين فهم الشركات والفهم السياسي للعواقب المترتبة عن تعامل رأس المال مع العمل، باعتباره سلعة مطروحة للتداول العالمي!

ليست مشكلة فرنسية.. ولكن من يستوعب الدرس؟

وتحت هذا العنوان رأى المحلل الأمريكي جيم هوغلاند أن الاضطرابات العمالية الفرنسية تردد صدى تظاهرات جرت مؤخراً في الولايات المتحدة احتجاجاً على ممارسات قوى العولمة والتي كان من بينها قوانين الهجرة الجديدة.

ويؤكد هوغلاند أن القوانين المتشددة المضادة للهجرة التي وافق عليها مجلس النواب الأمريكي وحوّلها لمجلس الشيوخ لا تتحدى، فقط، السلوكيات الإنسانية الاعتيادية، ولكن أيضا الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي اليوم بما يشير إلى ضرورة عدم ترك التغييرات (الاقتصادية الاجتماعية) لرجال السياسية.

ويشار إلى أن القوانين المذكورة تطال 11 مليون عامل مقيم في الولايات المتحدة ولكن دون أوراق رسمية، وهو ما دفع بالمتضررين وعائلاتهم وأنصارهم إلى الخروج في تظاهرات احتجاج في أكثر من 60 مدينة أمريكية وكان أضخمها في دالاس حيث كسر المتظاهرون من المهاجرين غير الشرعيين حاجز خوفهم من التوقيف والترحيل كونهم هم من ينهضون بأعباء بناء أمريكا ورفعوا شعارات تقول نحن أمريكا مستلهمين نضالات الزنوج وأرث داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ عبر ترداد مقولته الشهيرة «ما زال لدي حلم أيضاً».