بين يمين خاسر تتنازع قياداته المصالح الشخصية ويسار فائز وغير متبلور البرامج.. إيطاليا تقف في مهب الفراغ السياسي
بعد انتخابات طال ليل انتظار الإعلان عن نتائجها النهائية، شكل الانتصار النسبي لتحالف يسار الوسط بزعامة رومانو برودي في الانتخابات التشريعية الإيطالية وفي مجلسي الشيوخ والنواب، ولو بفوارق ضئيلة، صفعة جديدة لسياسات اليمين وبرامج الليبرالية في أوروبا، وهزيمة لإخطبوط الإعلام الإيطالي سيلفيو برلسكوني زعيم يمين الوسط الذي تقدم للانتخابات مجدداً ببرنامج مناوئ للشيوعية بشكل سافر وحتى استعراضي لم تشهد له إيطاليا مثيلاً منذ عام 1948.
ولكن لم تفد بيرلسكوني حملته الانتخابية التي أجراها على طريقة حملة إعادة انتخاب الرئيس بوش في عام 2004 ووجهها نحو تنشيط مؤيديه من المتشددين وتعبئة العدد المتزايد من الناخبين الذين أحجموا عن الإدلاء بأصواتهم طيلة السنوات الأخيرة ودفاعه عن الأسرة والقيم التي تحترمها المؤسسة الكاثوليكية الرومانية وقيامه بتشبيه اليساريين الإيطاليين ببول بوت زعيم الخمير الحمر في كمبوديا, بل وتسببت تصريحاته في إثارة حفيظة الصين عندما قال إن ماو تسي تونغ كان يغلي الرضع ليخصب الأرض. وأثناء حملته تلك لم يتردد بيرلسكوني في استغلال شبه احتكاره للتلفزيون في تمجيد إنجازات حكومته المزعومة.
وعلى الرغم من أن انتصار برودي لا يعد حاسماً وكاسحاً ولا يمكّنه من تشكيل حكومة بطريقة واضحة، إلا أنه يشير إلى أن أكثر من نصف الإيطاليين بقليل سئموا من وعود رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني التي لا تنفذ وفضائحه السياسية والمالية وتمسكه بأذيال واشنطن على حساب العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي.
وإن كان برودي استاذ العلوم الاقتصادية الذي تولى المفوضية الأوربية بين عامي 1999-2004 لا يشكل ذاك الاختلاف الجذري عن برلسكوني إلا أنه أكد أنه في أولوياته سيتوجه أكثر نحو أوروبا ونحو جيرانها في الشرق الأوسط ونحو سحب القوات الإيطالية من العراق، ويضاف إلى ذلك الاختلاف في مكونات الطيف السياسي والاجتماعي المنضوي تحت تحالفه الذي يضم اشتراكيين وشيوعيين.
ويرى المراقبون أن التحدي الرئيس أمام برودي يبقى في تشكيل حكومة مستقرة لا تقع في دائرة السقوط السريع بسبب عدم الاستقرار والتجانس، وتمكنه من تنفيذ وعوده الانتخابية خاصة فيما يتعلق بالبرنامج الاقتصادي الذي وعد من خلاله بتخفيض ضرائب الأعمال وإيجاد حلول لوقف تصاعد الدين القومي إلى جانب هدفه المتمثل في تمرير مشروع قانون عن "تضارب المصالح"، وهو قانون من شأنه أن يجبر برلسكوني مثلاً على الاختيار بين السياسية ومصالحه المالية الممتدة عبر التلفزيون والسينما والكتب والمجلات وفرق كرة القدم الإيطالية وصولاً إلى ملكيته العديد من القنوات حتى في فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وذلك في وقت تدنت فيه نسبة نمو الاقتصاد الإيطالي في عام 2005 في عهده إلى صفر في المئة وارتفع عجز الميزانية إلى 4.1 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي، (ليكون من بين الأكثر ارتفاعاً في أوروبا) وصار فقراء إيطاليا يشعرون أنهم يزدادون فقراً وأن التصريحات الاقتصادية المتفائلة التي يطلقها رئيس حكومتهم لا تنسجم مع واقعهم الذي يتقول بعض مفرداته أن تكاليف العمالة وسعر الصرف والطاقة والإسكان عالية للغاية إلى درجة أن معظم الشبان الإيطاليين يظلون مقيمين في مساكن أسرهم حتى سن الثلاثين لعدم توافر العمل المناسب.
وبينما تسير التنمية الاقتصادية في إيطاليا بمسارين متناقضين جغرافياً، تتفاقم المشكلات الاقتصادية الإيطالية كثيراً في أماكن مثل صقلية، وهي جزء من الجنوب الذي ظل متخلفاً عن الشمال طويلاً، والذي تصل فيه البطالة إلى نسبة عالية تناهز 14.2 في المئة وخاصة في صفوف الشباب، كما تنخفض فيه الأجور إلى حد كبير.
ويرجع جزء كبير من الصعوبات التي واجهها برلسكوني إلى حقيقة أنه كان قد رفع بوعوده سقف التوقعات كثيراً، عندما تولى المسؤولية منذ خمس سنوات وهو ما دفع الكثيرين إلى تصديقه بسبب سجله في تكوين الثروات لنفسه وبسبب ما أعلنه حينئذ عن توقيعه لـ"عقد مع إيطاليا" وعد فيه الإيطاليين بأن يحققوا هم أيضا ثروات كما حقق هو ذلك، ولكنه خلال حملته الانتخابية رفض كل الاحصائيات السوداء في سجل حكومته كون هذه الإحصائيات «تحجب حقيقة أكثر إشراقاً بخصوص واقع أثرياء إيطاليا».
غير أن جل ما فعلته حكومة بيرلسكوني هو جهود حثيثة لتمرير قوانين تبتغي تغيير الإجراءات القضائية لتفادي القضايا المثارة ضده باستمرار بتهم الفساد والتلاعب الضريبي، أو دمج محطات التلفاز العامة المملوكة للدولة مع محطات بيرلسكوني التلفزيونية الخاصة، أو ابتكار قانون انتخابي جديد يعمل لمصلحة التحالف الذي يترأسه، بمعنى أنه كان يخلط على الدوام بين بيرلسكوني رئيس الوزراء وبيرلسكوني رجل الأعمال وهذا التنازع في المصالح هو ما جعل تحالف يسار الوسط يفوز بكل الانتخابات التي عقدتها إيطاليا - الإدارية، والإقليمية، والأوروبية منذ انتخابات عام 2001.
يستبعد برودي وبيرلسكوني إنشاء ائتلاف أكبر على النمط الألماني وهي نتيجة تبدو غير مرجحة بصورة خاصة في أعقاب حملة انتخابية أشار فيها كل من المتسابقين بقوة إلى أن خصمه ليس له حق مشروع في الحكم. وفي الوقت نفسه فإن عقد انتخابات أخرى سوف يؤدي إلى ترك مسألة القانون الانتخابي معلقة ويهدد باحتمال قيام فراغ سياسي يستدعي إعادة الانتخابات.
غير أن اللافت في الموضوع يبقى أن العديد من الأوروبيين، وليس في إيطاليا فقط، يمرون بحالة من التوتر والعصبية وعدم اليقين بشأن المسار الذي تسلكه القارة في ظل احتدام التناقض بين المصالح الشعبية ومصالح الطغم الليبرالية الجديدة الحاكمة.