الاحتلال الأمريكي للعراق في عامه الثالث ... زلـزال المقـاومة وارتداداتـه داخـل جبهة الأعـداء
أكثر من ألف ومائة يوم، وشعب العراق مازال يواجه نتائج الغزو الإمبريالي / الصهيوني، الذي قادته إدارة إمبراطورية الشر الأمريكية وأدى لاحتلال الوطن وتدمير مقومات الدولة ونهب الثروات المادية والثقافية والتاريخية، في محاولة يائسة للإنقضاض على تاريخ وحضارة هذا البلد العريق. في التاسع من نيسان 2003 يوم احتلال بغداد، عاصمة الرشيد الخالدة، تحول هذا التاريخ كرمز، لليوم الأكثر سوداوية، فقد دخل الوجدان الإنساني بكونه اليوم الأكثر حزناً وألماً في تاريخ المنطقة. في هذه الذكرى السوداء، تستحضر ذاكرتنا المشاهد المؤلمة لاقتحام القوات المدرعة الغازية بوابات بغداد، لكن لحظات الذهول المؤقتة، تبددت بعد أن باشرت وحدات المقاومة الوطنية المسلحة، المنظمة والمهيأة لهذه المعارك، عملياتها النوعية، والتي شكلت امتداداً وتطويراً وتصعيداً للمواجهات البطولية التي امتدت من «أم قصر» ولم تنته في معارك «المطار» و«نفق الشرطة»، بل استمرت للآن بوتيرة متصاعدة في عشرات المدن والبلدات، عبر برنامج يومي سياسي وقتالي، يهدف إلحاق أفدح الخسائر بقوات الغزو وبالتشكيلات العسكرية وشبه العسكرية الموالية والعميلة لقيادة الاحتلال.
المقاومة.. زلزال يقض مضاجع الغزاة
لقد فجر زلزال المقاومة كيانات وهياكل ومشاريع الغزاة وتوابعهم المحليين، وانعكست آثار الزلزال وتداعياته داخل العراق ومحيطه الاقليمي، وعلى المركز الامبريالي بشكل خاص. فبعد ثلاث سنوات على الاحتلال، تتوضح بشكل مباشر آثار الأزمة / المأزق الذي تعاني منه الإدارة الأمريكية_ البريطانية، والتوابع المحليين. كما شهد العام الثالث للاحتلال تطوراً ملحوظاً في قدرات المقاومة على تطوير أدوات عملها وأساليب مواجهتها. فقد توسعت وتنامت بشكل نوعي شبكات الدعم الجماهيرية المنظمة داخل العديد من المدن والبلدات والتجمعات السكانية في البوادي، والتي وفرت للمقاومة المحيط الذي يشكل مصدر اسنادها وامدادها الدائمين. أمام هذا التطور، جاءت اعترافات الناطق باسم قوات الغزو، الجنرال «دونالد اولستون» لتشير إلى التقدم الكمي في عمليات المقاومة. فقد اعترف بلغة الأرقام «الرسمية» بأن المقاومة قد شنت 34131 هجوماً في عام 2005 مقابل 26496 في عام 2004. كما تحدثت صحيفة «ديفنس نيوز» المتخصصة بالشؤون العسكرية في تقرير نشرته مؤخراً بأن «منظمات المقاومة العراقية قد استطاعت تنفيذ عمليات تجسس واستطلاع داخل المنطقة الخضراء». في مواجهة هذه الانتصارات التي تحققها المقاومة، لجأت قوات الاحتلال إلى الاستخدام المكثف للطيران في عملياتها العسكرية، فالبيانات الأمريكية تعلن عن إشراك الطائرات المقاتلة والسمتية في المعارك التي تخوضها قواتها مع مايفترض أنه مواقع للمقاتلين، لكن الحقائق على الأرض تشير إلى استهداف وحشي للمناطق السكنية كترجمة لسياسة «الأرض المحروقة». لقد أشارت بيانات القيادة الأمريكية إلى ازدياد كبير في استخدام الطائرات الحربية، خاصة في الأشهر الأخيرة. فقد ارتفعت الزيادة عما نسبته الخمسين بالمائة مقارنة بذات الفترة من العام المنصرم. فقد تعرضت عشرون بلدة ومدينة لغارات الطائرات المهاجمة، بينما لم تشهد سوى تسع مدن فقط الغارات الجوية خلال نفس الفترة من السنة الماضية، وهو ما أكده العقيد «أودري باهلر» في تصريح له من مقره في قاعدة السيلية في قطر (الطائرات العسكرية لقوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني شنت 306 غارة جوية في عام 2005 بزيادة 43 % عما قامت به في العام الفائت والذي بلغت الغارات خلاله 214 غارة). وكالة «الأسوشيتدبرس» أشارت في تقرير لها نشر في ديسمبر 2005 مايؤكد تصريحات المتحدث العسكري (القوات الجوية الأمريكية قامت بآلاف طلعات القصف، كما نفذت مهام عديدة دعماً للقوات البرية خلال الأشهر الأخيرة) بالإضافة لهجمات طائرات «بريديتر» بدون طيار المزودة بصواريخ «هيل فاير» _ التي تستخدمها قوات العدو الصهيوني في عمليات اغتيال نشطاء الانتفاضة الفلسطينية، والتي يطلق عليها الشعب الفلسطيني إسم «الزنانة» _.
الإحباط والرفض يجتاحان الشارع الأمريكي
مع تصاعد المواجهات واتساعها، وأمام ازدياد عدد توابيت القتلى من القوات الغازية، أكثر من 2500 قتيل – حسب الأرقام الرسمية التي تشير فقط لحملة الجنسية _ وحوالي ستين ألف جريح ومعاق جسدياً ونفسياً، انعكست تأثيراتهم على المجتمع الأمريكي والبريطاني، بالإضافة إلى تدمير آلاف المعدات العسكرية _ عربات، مدرعات، طائرات _ مما راكم أعباء جديدة على المواطن، دافع الضرائب، الذي اكتشف أن دولته العظمى عاجزة عن تأمين احتياجاته الأساسية وهو يصارع من أجل البقاء في مواجهة غضب الطبيعة، كما حصل أثناء إعصار كاترينا. لقد استنزفت العمليات العدوانية التي تشنها الآلة الحربية الأمريكية على العراق وأفغانستان مليارات الدولارات شهرياً، فإذا كان الانفاق الشهري الحربي قد بلغ خلال عام 2005 «6,8» مليار دولار، فإن تقرير مركز أبحاث الكونغرس الأمريكي قد أشار مؤخراً إلى ارتفاع فاتورة الانفاق الشهري في العام الحالي لتبلغ «9,8» مليار دولار كنفقات للحرب والاحتلال.
أخطاء قاتلة بالجملة
أمام هذا الوضع الكارثي الذي تعيشه الدولة الأعظم في العالم، فقد تعاظمت حالة الرفض للحرب العدوانية على العراق، خاصة بعد انكشاف سلسلة الأكاذيب التي ساهم في تعريتها وفضحها، العديد من المسؤولين الأمريكين، والمتعلقة بأسلحة الدمار الشامل ودعم تنظيم «القاعدة».
فقد اتسعت دائرة الرفض من الهيئات الأهلية والحركات الشعبية كحركة النساء الناشطات بقيادة المناضلة الأمريكية «سيندي شيهان» التي وضعت شعاراً لحملتها «اخرجوا الآن»، بالإضافة لعشرات اللجان الشعبية في العديد من المدن الأمريكية، المترافقة مع ظهور ثمانية مواقع على الانترنت من داخل امريكا تعارض الحرب على العراق، وقد سجل «موقع الأغاني» نصوصاً وألحاناً لحوالي خمسين أغنية تصرخ معارضة للحرب، كما برز موقع «فضائح بوش» من خلال تعريته لسياسة الادارة الأمريكية من خلال كشف دور صناع القرار الرئاسي «تشيني، رامسفيلد، ولفووتز» في تصدير الموت لشعوب العالم. كل ذلك أدى لانخفاض شعبية الرئيس بوش إلى أدنى مستوياتها إذ بلغت 32 %. كما أشارت العديد من استطلاعات الرأي _ المحلية والعالمية _ إلى ازدياد كبير في مطالبة العديدين ممن خضعوا للاستطلاع، بضرورة سحب القوات الأمريكية خلال الأشهر القليلة القادمة. لقد ارتفعت في الأسابيع الأخيرة أصوات العديدين من اصحاب «الوزن السياسي / الاعلامي الكبير» داخل المجتمع ، المطالبة بخروج أمريكا من العراق، والأبرز في المواقف الجديدة ، كانت الانتقادات العنيفة التي أدلى بها أبرز مفكري اليمين ممن أقنعوا جورج بوش بغزو العراق. في عدد صحيفة «الاندبندت» البريطانية الصادر يوم 9 مارس _ قبل شهر_ يعبر «وليام فوكلي» أحد أبرز منظري الحزب الجمهوري عن استيائه مما يجري في العراق، بالقول (لا أحد يستطيع أن يشكك في فشل أهداف غزو العراق، وان العداء العراقي أثبت أنه لايمكن احتواؤه بجيش قوامه 130 ألف جندي أمريكي، علينا تغيير الخطط، أهم مافي الأمر الاعتراف بالهزيمة) مضيفاً (احتجنا إلى أربع سنوات لغزو طوكيو وبرلين، لكن بعد ثلاث سنوات مازال من المستحيل الانتقال من وسط بغداد إلى مطارها بدون حراس مسلحين). أما صاحب نظرية صراع الحضارات «فرانسيس فوكوياما» أحد الذين وقعوا مع أربعين شخصية بارزة في البيان الذي تضمن طلبهم إلى الرئيس جورج بوش الانتقال إلى مرحلة تنفيذ خطة تغيير النظام العراقي، الذي تحول حسب رأي الموقعين على الطلب إلى «هدف الدبلوماسية الأمريكية» فقد مارس مؤخراً عملية نقد لموقفه من الحرب قائلاً: «إنني أتحفظ على هذه الحرب».
أما «زبينيو بريجنسكي» مستشار الرئيس «كارتر» وأحد المتشددين في الإدارة الأمريكية السابقة،فقد ساهم بنقد الحرب وتداعياتها «إن كلفتها كبيرة جداً وأضرت بالزعامة الأمريكية، وانهارت مصداقية الولايات المتحدة في العالم» وعزا فشل الحرب الى «سلسلة من الاخطاء المتتالية المتكررة لزمرة صغيرة متعصبة ترفض تحمل أي مسؤولية عن أخطائها إن لم نقل عن جرائمها»
«جون كيري» مرشح الانتخابات الرئاسية السابقة عن الحزب الديمقراطي، العضو البارز في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، صرح قبل عدة أيام بضرورة «تحديد الخامس عشر من شهر مايو القادم موعداً لبدء الانسحاب الأمريكي من العراق في حال عدم تشكيل حكومة عراقية، وحتى لو تم تشكيل الحكومة، فإن من الضروري استكمال سحب قوات الاحتلال الامريكي من العراق مع نهاية العام الحالي» وقد شارك «كيري» في أرائه تلك، العضو الديمقراطي البارز في مجلس الشيوخ والمرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة «روس فينغولد».
حملة الانتقادات تتصاعد وتيرتها أيضاً داخل دائرة معسكر «الجنرالات القدامى». الجنرال «بول ايتن» المسؤول السابق عن تأهيل قوات «الأمن» العراقية، حَمـَلَ وزير الدفاع «رامسفيلد» مسؤولية الفشل في العراق، واصفاً إياه في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 19 / 3 / 2006 (قيادي فظ، يثير غضب حلفائه، لايتمتع بأي كفاءة على الصعيد الاستراتيجي والتكتيكي). قائد القيادة الأمريكية الوسطى السابق، الجنرال «انتوني زيني» قال في حديث له قبل عدة أيام (لابد ان يدفع المسؤولون في الادارة والبنتاغون عن الأخطاء الاستراتيجية ثمن أخطائهم، داعياً الى ضرورة إقالة المسؤولين عنها وأولهم إقالة وزير الدفاع رامسفيلد). الاعتراف بالأخطاء انتقلت حملة الاعلان عنها لوزيرة الخارجية «كونداليزا» التي أعترفت أثناء زيارتها لبريطانيا في أواخر الشهر الماضي بأن بلادها «ارتكبت آلاف الأخطاء التكتيكية في الحرب على العراق». لكن السيدة «رايس» تصر على الهروب إلى الأمام، فالخطأ _ وهو الخطيئة بعينها _ لم يكن في التكتيك، بمقدار ماكان في الاستراتيجية. إن معارضي الحرب الذين تصدوا لها في مدينة «بلاكبرن» البريطانية وصرخوا بوجهها (عار عليك، ارجعي إلى بلادك، كفى أكاذيب) كانوا يتابعون ماقالته لها مجموعات من معارضي العدوان على العراق يوم السادس عشر من مارس، أثناء زيارتها لجامعة «سيدني» الاسترالية « أنت مجرمة حرب وقاتلة، دم العراق في يديك ولايمكنك غسل هذه الدماء» ويكررون على مسامعها ماصرخ به يوم 9 مارس الفائت أحد الناشطين في مجال معارضة الحرب بوجه « كوندي » أثناء اجتماع مجلس الشيوخ الأمريكي لمناقشة تقرير وزيرة الخارجية «ما نوع الحرية التي تتحدثين عنها؟؟ أنت قاتلة»
تعثر المشروع الأمريكي
في المشهد العراقي المحلي، تبدو تداعيات التاسع من نيسان أكثر وضوحاً، العملية السياسية التي صاغ برنامجها ورسم آليات تنفيذها «بريمر و نغربونتي» تتعثر مساراتها بفعل السلوك الذاتي القائم على توسيع دائرة المحاصصة المذهبية والاثنية، من أجل أن يتم تحويل الطائفة أو المذهب أو الانتماء الأثني إلى «جمهورية موز» تتخفى خلف «الفيدرالية» أو «الكيان» عبر استطالات اقليمية محددة. لقد طغى على صيغ التحالف والائتلاف منطق الهيمنة المستمد من الانخراط الكامل والتفصيلي بمشاريع تقسيم العراق، ولهذا تَحَول «الائتلاف الموحد» إلى اختلاف دائم ليس على «الجعفري» بل وعلى الفيدرالية ومنطقة كركوك والعديد من القضايا. إن محاولات السفير الأمريكي «زلماي زادة» الحاكم الحقيقي للعراق، في محاولات استمالة بعض الكتل لمشروعه، الذي يسعى لتسويقه من خلال الإعلان المستمر عن رفضه لتسلم بعض الوزارات الأساسية لرموز مذهبية تقود ميليشيات مجرمة، لاتعدو كونها ذر للرماد في العيون، لأن الاحتلال هو المسؤول عن تجهيز وتدريب ورعاية هذه القوى والعناصر، وهو الذي يشرف عبر مستشاريه في كل وزارة على خطة العمل المحددة. إن عمليات القتل المبرمج التي تستهدف المواطنين في الكنائس والمساجد والحسينيات والأسواق الشعبية، تدل على إفلاس المشروع الاحتلالي وانسداد آفاقه، وتكشف عن طبيعة القتلة المأجورين الذين تدربوا في معسكرات الأعداء، خارج العراق وداخله. إن محاولات دفع العراقيين عبر جرائم الذبح والتقطيع والتفجير لمغادرة مناطق سكنهم، بهدف تحويلها إلى أحياء ومدن ذات لون طائفي ومذهبي واحد «نقية مذهبياً» لن يتحول إلى حالة شاملة، لأن النسيج الاجتماعي العراقي المتداخل «مذهبياً وعرقياً» أكثر مناعة مما يتصور الغزاة وعملاؤهم.
الرهان الكبير.. الشعب العراقي
إن شعب العراق الذي يعاني في كل مناطقه المحتلة من البؤس والفاقة نتيجة البطالة وانعدام الدخل، ولحرمانه من الماء النظيف والكهرباء، ولفقدانه الأمن الاجتماعي _موت مجاني، إختطاف وقتل لجميع شرائح المجتمع «أكثر من ألفي امرأة تعرضت للإختطاف، البعض منهن تم بيعهن كسلع داخل العراق وخارجه، والبعض الآخر تعرض للاغتصاب»، اعتقال مئات الألاف على يد قوات الاحتلال وعصابات الميليشيات _. إن المأساة التي يتعرض لها العراق اليوم، كانت النتيجة الطبيعية للغزو الذي ابتدأ بسياسة «الصدمة والترويع» واستتبعها بنشر«الفوضى البناءة»! والتي بدأت انعكاساتها على المركز الامبريالي وتوابعه. إن انجازات وانتصارات المقاومة الوطنية العراقية، دفعت بمخططي الإدارة الأمريكية والبنتاغون لإعادة حساباتهم، والبحث الجاد عن سيناريوهات لإعادة تجميع قوات الغزو خارج المدن، تمهيداً لانسحابها. إن تصاعد الفعل الوطني المقاوم هو الكفيل بطرد المحتل، كخطوة أولى على طريق تحريرالأرض والانسان.
اليوم، وشعب العراق ومقاومته الباسلة التي تتواجد على مساحات واسعة من أرض الوطن، يعبرون العام الثالث للاحتلال وهم أكثر ثقة بالنصر، فالعمليات المتصاعدة ضد المحتل في أكثر من مكان، على الرغم من التعتيم الاعلامي عليها «المواجهات المسلحة في البصرة، النجف، الديوانية والعمارة» تسقط تضليل الاعلام الموجه أمريكياً، بأن المقاومة محصورة في المثلث أو المربع! إن شعب العراق يؤكد للعالم بأن مجابهة الغزو، تتجاوز حدود الوطن والذات العراقية، لتتحول إلى مهمة ملحة لحركة التحرر العربية، وللقوى الثورية العالمية، لأن إخفاق المشروع الإستعماري التوسعي في العراق ومنطقتنا، سيوفر للقوى الثورية المناهضة للعولمة الامبريالية المتوحشة عوامل الانتصار.
9 / 4 / 2006