لبنان أيضا

المثقفون اللبنانيون يعرفون عموماً أن المؤتمر الصهيوني الأول في بال (سويسرا) أعلن مطالبته بفلسطين والأراضي العربية المجاورة، ومن الجملة مناطق لبنان الجنوبية، وفي 1919 المنظمة الصهيونية العالمية قدمت لمؤتمر باريس للسلام مشروع دولة يهودية تضم نهر الليطاني، وبعد إقامة دولة إسرائيل بدأ القادة الإسرائيليون على الفور بالتطلع نحو لبنان، ففي 21 أيار 1948 أي بعد أيام من إقامة الدولة، كتب بن غوريون في مذكراته: «كعب آخيل (أي منطقة الضعف في التحالف العربي هو لبنان. فالتفوق الإسلامي في هذا البلد مصطنع، ويمكن بسهولة تقويضه. يجب إقامة دولة مسيحية هناك، حدودها الجنوبية هي نهر الليطاني، ويجب أن نوقع معاهدة تحالف مع تلك الدولة» وفي شباط 1954 أشار بن غوريون إلى أن إقامة دولة مسيحية يمينية عميلة في لبنان هي «مهمة مركزية، أو على الأقل واحدة من المهمات المركزية في سياستنا الخارجية» مصراً على «القيام بخطوات قوية في سبيل تحقيق ذلك» وبالنسبة لموشي دايان: «. . . الأمر الوحيد الضروري هو إيجاد ضابط، ولو ميجر، إما سنستحوذ على قلبه أو سنشتريه بالمال لنجعله يقبل بإعلان نفسه مخلصاً للموارنة، حينئذ يدخل الجيش الإسرائيلي لبنان، ويحتل الأرض الضرورية، ويخلق نظاماً مسيحياً يتحالف مع إسرائيل».

طبعاً تلا ذلك في المنطقة أحداث وأحداث، وبقي الهدف التوسعي نفسه وتجسد بالغزو الشاروني في 1982 للبنان.
حالياً «محررو» لبنان يقدمون، سواء عن قصد أو عن غير قصد هدية ثمينة لإسرائيل، وهدية أثمن للإدارة الأمريكية.
لبنان بلد هام جداً في منطقة الشرق الأوسط، فهو يؤلف بؤرة ثقافية هامة، وكان عنصراً هاماً في النهضة في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، وكان وما يزال ناقلاً للحضارة الأوربية،ومهارات أبنائه كانت ومازالت ذات أثر في بلدان الخليج، وأيضاً في أفريقيا وأوربا والأمريكيتين.
وتحرير لبنان ليس فقط مهما للبلد وشعبه، وإنما أيضاً للمنطقة العربية، فاستبعاده يحرم المنطقة من طاقاته المتعددة الجوانب. يجب أن يتحرر من أي طرف ، من سوريا (رغم أن سوريا ولبنان متكاملان)، ومن إيران،ولكن قبل كل شيء، يجب أن يتحرر من الإدارة الأمريكية ومن الإدارة الإسرائيلية.
حرب تموز الماضي حرباً أمريكية ـإسرائيلية لاحتلال لبنان، و«محررو » لبنان كانوا ضد المقاومة
التي حمت لبنان، وطعنوها في الظهر بأمور عديدة: لقد وصلوا الأمر بأحد زعماء «المحررين »إلى وضع إشارات فوضوية للقاصفات الإسرائيلية على الأبنية كان يعتقد وجود قيادات المقاومة فيها، فهل ثمة وطنية أقوى من ذلك؟
وهل ثمة ثقة توضع أفضل من وضعها في ذلك «المحرراتي»؟
فرض« المحررون » على لبنان إدخال قوات دولية مسلحة باسم اليونيفل، هي في حقيقتها قوات احتلال مموهة، جميع طروحات «المحررين » هي نفس طروحات أمريكا وإسرائيل، فهل هذا بالصدفة؟ يصر «المحررون» على تجريد المقاومة من سلاحها باعتبار« مهمتها انتهت» وهذا يثلج قلب الإدارة الإسرائيلية، وقلب السيد جان بولتون المندوب الأمريكي ـ الإسرائيلي في مجلس الأمن .
اغتيال المرحوم الحريري هو اخترع أمريكي بصرف النظر عن اليد، التي ارتكبت الجريمة . غير أن الاختراع معقد. فالأول مرة يجري تأليف لجنة دولية لمجزرة بيت حانون الفلسطينية، مع أنها جريمة ضد الإنسانية، ولا للمجازر، التي ارتكبت في لبنان، ولا التي ارتكبت في العراق، وكلها جرائم ضد الإنسانية، ونشأت لجنة تحقيق دولية في جريمة فردية . طبعاً هذا لعلم«المحررين » اعتداء على سيادة لبنان. قد يطلب القضاء اللبناني الإستعانة بخيرات جنائية دولية ، والأمر حينئذ يختلف ، أما القفز على القضاء اللبناني بلجنة تحقيق دولية، فهو توجيه ضربة لاحد السلطات الثلاث اللبنانية. عدا ذلك ، ماذا تستطيع أي لجنة تحقيق دولية أن تفعل من أجل كشف الفاعلين بعد طمس كل آثار الجريمة ؟ التحقيق في الجريمة ما يتطلب قبل كل شيء دراسة موقع الجريمة، وبعدئذ تأتي التفاصيل الأخرى . هنا قد وضع اتهام مسبق ومحدد وصار كل التحقيق يدور حوله ، وفي ذلك أفضل طريقة للتعتيم  على الفاعل وإبعاده، حتى عن الشبهة. الجريمة ومسرحية التحقيق كلتاهما جزء من الاختراع الأمريكي لإخراج سوريا من لبنان. ليكن. لقد خرجت سوريا من لبنان ، قد يصرف النظر عن جميع الحيثيات كان يمكن أن تعود للقضاء اللبناني سلطته، وأن يمارس دوره في الاغتيالات القذرة التي تلت ، وأن يكشفها ، ويحاسب مرتكبيها . ولم يحدث شيء من ذلك . بقي القضاء اللبناني مغيباً . الآن الاختراع الأمريكي الآخر ، وهو المحكمة الدولية، أيضاً من المضحك أنشاء محكمة دولية من أجل جريمة فردية، ومضحك كذلك أنشاء محكمة من أجل جريمة أو جرائم لم تكتشف. هل تحاكم المحكمة أشباحاً، حتى مع وجود مشبوهين، أو مشبوهين مخترعين، فإن القاعدة الحقوقية تجعلهم بريئبن لعدم كفاية الأدلة ، إلا إذا كانت المحكمة العقيدة القرقوشية، غير متقيدة لا بالقوانين الدولية ، ولا بالقوانين اللبنانية ، وربما هي كذلك ،لأن «المحررين» يهددون بقطع الرؤوس مثلما قفزت الإدارة الأمريكية على كل القوانين والأصول الدولية وصنعت مسرحية ،مسرحيات لاحتلال العراق، فإنها تريد هنا صنع مسرحيات ، إذا لم يكن لقطع رؤوس معارضيها في المنطقة، فعلى الأقل لتشويه سمعتهم . فاتهام بالجريمة يشوه السمعة ولو كان الضحية لا علاقة لهبها. ويبقى صاحب السمعة الطيبة فقط الإدارتان الأمريكية وإسرائيلية رغم الجرائم ضد الإنسانية المفضوحة، التي ارتكبوها ويرتكبونها.
طبعاً محررو لبنان هم أحرار في الولاء البري أو المشبوه للإدارة الأمريكية والإسرائيلية، ولكنهم ليسوا أحراراً في تسلم بلدهم هدية مجانية أو مقبوضة الثمن للاحتلال ، وليسوا أحراراً في فتح الطريق لعودة الاستعمار القديم إلى منطقة الشرق الأوسط، لأنهم بذلك يتناقضون مع شعوب الشرق الأوسط، وليسوا أحراراً في تمثيل المصالح الاستعمارية في المنطقة ، ولو  كان ذلك يتفق مع مصالح البعض منهم الشخصية البحتة، وليسوا أحراراً في جر الشعب اللبناني للخضوع لغير الإمبريالي، قد يكونون أحراراً في ولائهم لغير لبنان، ولكن حريتهم هذه خطر عليهم بالذات، لأنها تجعلهم في مواجهة الشعب اللبناني، وفي مواجهة شعوب المنطقة..
حتماً «المتورطون» لايحاكمون الأمور، ويبقون معلقين آمالهم بالإدارة الأمريكية، ولايتذكرون أنهم لايخاطرون فقط ببلدهم وبمصير المنطقة، وإنما أيضاً بأنفسهم.
موشي دايان لم يحصل على ميجر فقط، وإنما أيضاً على «حلفاء» كبار . . . .