الجدة الاستشهادية
هي فاطمة النجّار.. الجدّة التي بلغت السابعة والخمسين، أكبر الاستشهاديّات والاستشهاديين عمراً، والتي تركت رسالة مصوّرة وهي تحمل بندقيةً، وتتزنّر بحزام ناسف، وتضع على رأسها عصبة خضراء، وتقرأ من ورقة كتبت عليها رسالتها بخّط يدها؟ أقدّم نفسي لله وفداءً للوطن ثمّ للأقصى، وأتمنّى أن يتقبّل الله منّي هذا العمل، وأقدّم نفسي للمعتقلين والمعتقلات، وأسأل الله أن يفّك أسرهم...
الجدة لم تختر هذه الخاتمة لحياتها، فهي تمنّت أن تحّج إلى بيت الله الحرام، وأن تصلّي في الأقصى مقدّسةً حجّتها، وأن تبتهج في ما تبقّى لها من عمر برؤية أحفادها وهم يكبرون تحت ناظريها، تحت جناحي آبائهم وأمهاتهم، يمرحون في شوارع كغيرها من شوارع مدن وقرى هذه الدنيا، شوارع لها أرصفة، يمر عليها متسكعون، وفضوليون يتسلّون بالتفرّج على واجهات المحال التجاريّة، شوارع يتقافز الصغار فيها على دراجاتهم، يتنططون، ويتأودون بدرّاجاتهم بين السيّارات تلاحقهم تحذيرات سائقين قلقين عليهم، يرون فيهم أطفالهم أو من سيكونون أطفالهم ذات يوم بعد أن يتزوّجوا من فتيات قمحيات اللون، شوارع تفضي إلى حدائق للنزهة واجتماع الناس ليستمتعوا بالماء والخضراء والوجه الحسن، شوارع يتطاير فيها أطفال المدارس كالفراش مثيرين جلبةً وفرحاً وبهجةً للناظرين، لا شوارع تحرث أرضها الدبابات، وتترصّد الرشاشات بالموت من يتحرّك فيها.
لكن هذا لا يحدث، فالشيخة فاطمة أم محمّد وإن تمنّت هذا المشهد، فهي لا ترى سوى صواريخ تنقّض على البيوت فتهرس تحتها الأمهات والآباء والأطفال، ولا ترى لأطفال بيت لاهيا وكّل فلسطين سوى مصير (محمّد الدرّة) و(هدى غالية) !.
أم محمّد شلعت قلبها صيحة هدى على شاطئ البحر، وهي تنعف التراب على رأسها؟ يابا.. وأبوها لا يجيب، وصيحتها تتبدّد على أمواج البحر، وتحت سماء تظّل البشر أجمعين، فلا يهّب لنجدتها أحد، ولا يرتفع ميزان العدل والحّق لعقاب المجرمين!.
أم محمّد انطلقت في مقدمّة سيدات بيت حانون لفّك الحصار عن فتية شجعان طوّقتهم على الأرض دبابات، ومن السماء صبّت عليهم النيران طائرات الآباتشي.
أم محمّد أوجعها مشهد مزق أجساد أفراد عائلة (العثامنة) في بيت حانون، وفطّرت فؤادها برك الدم ، فأضمرت فعلاً يكون رسالة...
اعتاد المحتّلون أن يمنعوا دخول من هم دون الأربعين للصلاة في المسجد الأقصى أيام الأعياد والمناسبات الدينيّة، وأيّام الجمع في رمضان، واعتادوا أن يحرموا من هم دون الأربعين من دخول الخّط الأخضر، على اعتبار أن من هم في هذه العمر يميلون للتضحيّة بأنفسهم كونهم شباباً فائري الدم، ليس وراءهم زوجات وأولاد وبنات.
أم محمّد لم تكتف بفرد سجّادة الصلاة والاكتفاء بالدعاء على المحتليّن قساة القلوب، سائلةً الله أن يعاقبهم على أفعالهم، وأن ينتقم منهم، ولكنها طوت سجّادة الصلاة، وضربت استخارة، فقرّ قرارها أن تنزل إلى ميدان المعركة بنفسها _ هل تأمّلتم ملامحها؟ أليست تشبه الربّة ( عناة) في التراث الكنعاني، ربّة الخصب، والزواج، والحرب؟ كأنّ لسان حال الجدّة يقول: هذه الحياة ما عادت تطاق، وهؤلاء الجنود المجرمون لا بدّ أن يخافوا (كّل) الفلسطينيين، من (كّل) الأعمار، فالغضب لا عمر له لأنه يولد على أرض فلسطين مع المشيمة، ويغذّي كحبل السرّة.
شيخة الاستشهاديين والاستشهاديات في عقدها السادس ليست فتاةً غرّةً، وفتياتنا يولدن كبيرات العزيمة في كنف أمهات عجنتهن المآسي، وآباء توارثوا روح وعزيمة الفداء.
لم تفشل أم محمّد في قصّة حب لتقع في اليأس، ففي روحها نبع حب فيّاض، وإلاّ ما الذي يدفعها لما فعلت؟!
لم تخسر أم محمّد رأس مالها في بورصة الأسهم، فأسهمها تضمنتها رسالة (الوداع) التي جاشت بها نفسها الطاهرة المؤمنة.
لم تيأس أم محمّد لأنها عاقر، فهي أم فلسطينيّة ولود لها أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات.
لم تكره أم محمّد العيش لأنها مصابة بوهن الجسد، أو لأنها عالة، فهي قويّة الجسد، والروح، والإيمان، وهي ركضت إلى مسجد النصر سابقة البنات الصغيرات، رفرفت بأجنحتها على شباب رضعوا حليب أمهاتهم فشبّوا كبار النفوس والنخوات.
العلّة التي عانت منها أم محمّد منذ جاءت إلى الحياة هو الاحتلال، ودبابات الاحتلال، وطائرات الاحتلال، وعذابها سقوط الشهداء، والضحايا، وتفجّع الأمهات، ورحيل الأزواج في أول رحلة الحياة الزوجيّة تاركين وراءهم زوجاتهم الشّابات بأثواب الحداد، وأبناءهم وبناتهم أيتاماً في حياة شّاقة وعرة موحشة.
هل فهم هذا العالم اللاهي الظالم المنافق انفجار الجدّة أم محمّد وهي في هذا العمر؟!
هل تأمّل العرب والمسلمون وجه (عروس) فلسطين الجدّة أم محمّد، وسمعوا كلماتها جيّداً؟!
هل هزّت فعلة أم محمّد قلوب وضمائر الذين يسهمون في (تجويع) شعب فلسطين عرباً ومسلمين، وتفاقم الويلات التي يصبّها الاحتلال الصهيوني عليه يوميّاً ؟!
أم محمّد أبلغت الأسرى أنها تحمل همّهم، تفكّر فيهن وفيهم، في الذين اكتهلوا وراء القضبان ودبّت الأمراض في أجسادهم، وفي اللواتي أنجبن في الزنازين بعد انتزاعهن من بيوتهن الأسريّة.
أم محمّد النجّار مضت بعيداً (بانتفاضة) سيدّات بيت حانون، وفي معاني الاستشهاد كاحتجاج ورفض إنساني للذّل والهوان والقبول بموت يومي يبتلي به المحتلّون شعبنا.
كلمات أم محمّد، تجاعيد وجهها، التماعة عينيها وهي تحتضن البندقيّة، وتتلو كلماتها لشعبها، لأبنائها وبناتها، وأحفادها وحفيداتها، كلّها تقول؟ نحن شعب لن يموت، فعزيمة الشيوخ أمضى عندنا من عزيمة الشباب، وتجاعيد الوجوه، ووهن العظام، وحّب الأحفاد والحفيدات، لن تكون عائقاً، بل هي الدافع للانفجار في عدو يقتلهم أمام عيوننا، يحرمهم من الحنان، يمزّق أجسادهم في أحضان أمهاتهم...
أم محمّد، يا أمنّا، يا جدتنا الزيتونة المباركة، لك المجد، فأنت بفعلك المعجز تلهميننا، وتمنحيننا الثقة، وتنقّين نفوسنا من اليأس، والشعور بالعجز، فنحن شعب كثير بنفسه، بمعجزاته التي لا شبيه لها، بتجدد طاقاته في الميدان...
أم محمّد! جيش بكامله دخل المعركة، وأين الجيوش التي بشجاعة، وإيمان، وجسارة شيخة الشهداء هذه؟!
أم محمّد استشهدت لفرط حبّها للحياة الكريمة، وكرهها للموت والاحتلال.. فلعنة الله على المحتلين الذين حرموا الأحفاد من جدّتهم، وحرموا الجدّة من شيخوخة مريحة على ثرى وطنها...