الحقيقة والوهمبين عامين

تأتي احتفالات الناس بعيد رأس السنة عادة وقفة مختلقة ومقتطعة من زمن مستمر بحثاً عن فسحة ما للفرح وتقويم للعام الفائت ووضع خطط زاهية وأحلام وردية للعام اللاحق.
العيد في منطقتنا لهذا العام كان مزدوجاً برأس السنة وعيد الأضحى، غير أن الإدارة الأمريكية اختارت «الهدية» بعد أن حضرت لها بعناية وتأن: رأس صدام وتقديمه أضحية وتحويله إلى «شهيد» وهو الديكتاتور السفاح، محولة العيد إلى نكد يستفز بالغالب حتى مشاعر خصومه، ويزج بالقضية في إطار الأطروحة الأمريكية المسماة بصراع الحضارات وما تتضمنه وتطمح له من تناحر بين الأديان والمذاهب والأعراق والعشائر والعودة تفتيتياً إلى مكونات ما قبل الدولة الوطنية حتى ضمن البلد الواحد...

ومن هنا يأتي إعدام الرئيس العراقي السابق حلقة مفصلية من عدوان مستمر يتجاوز شخص هذا الطاغية، الذي يحظى بقلة قليلة يمكن أن تدافع عنه، ليطال المنطقة برمتها.
التخطيط والإمداد أمريكي، والتنفيذ عراقي، يتنصل منه فجأة الأمريكيون  وحلفاؤهم وإعلامهم، والقضية في نهاية المطاف تتعلق بتوقيت الإعدام وملابسات المحاكمة التي جرت في ظل الاحتلال لأسير حرب تم تسليمه لمنتقمين منه، مثلما تتعلق بعدم انتهاء المحاكمة، وعدم وصولها إلى قضية حلبجة مثلاً، لأن من شأن ذلك أن يطال مسؤولين أمريكيين وعراقيين سابقين وحاليين؟ بطبيعة الحال، ولأن محاكمة صدام لم تكن عراقية ناطقة باسم الشعب العراقي فإن عدالتها كانت منقوصة، أقلها لأن أي عدالة حقيقية تقتضي أن يكون كلاً من بوش وبلير في قفص الاتهام ذاته وعلى المشنقة التالية بجانب صدام أو بعده!
إذا كان المشروع العسكري الأمريكي يتعثر في العراق بفضل المقاومة الوطنية مثلما تعثر في لبنان ولا يزال بفضل مقاومته وشعبه إلا أن ذاك المشروع يحاول سرقة نتائج انتصار تموز في لبنان وبات يجد امتدادات له عبر الإمعان في اختلاق الثنائيات الوهمية وتأجيج الصراعات الثانوية عرقياً وطائفياً ومذهبياً في كل بلدان المنطقة العربية بما فيها العراق ولبنان وفلسطين والصومال والسودان، لتحل محل الصراع الرئيسي بين مشروع الهيمنة الأمريكي الصهيوني بأدواته وأزلامه ومرتكزاته ومشروع مقاومته، والأنكى من ذلك أن هذا التحويل وتحت وطأة الضخ الإعلامي والتكرار الببغائي لم يعد يجد أبواقاً له على لسان قادة وزعماء عرب فحسب بل بات يتردد على ألسنة عدد لا بأس به من أبناء الشارع العربي، أي أن هناك نقلة خطيرة في مستوى الصراعات الثانوية باتجاه الأسفل باتجاه عموم الناس وهنا المقتل الذي يراهن عليه المشروع الأمريكي. وعليه، على سبيل المثال، ومع التحضير لشن عدوان أمريكي إسرائيلي على إيران بعد إقرار العقوبات عليها جاء الإعلان عن أن منفذي حكم الإعدام بصدام هم من طائفة معينة، هي ذاتها التي تشكل عماد المقاومة ومشروع المواجهة في لبنان والمتحالفة من ضمن قوى أخرى مع سورية، يأتي هذا الإعلان ليقسم الشارع العربي مسبقاً ويصبح الموقف من هذا العدوان مبنياً مسبقاً على أساس نظرات ضيقة طائفية ومذهبية وليس على أساس أنه يطال دولة جارة أو إسلامية أو إحدى دول مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. والخطورة ذاتها تنطبق على الوضع في الشارع الفلسطيني وانزلاقه نحو شفير المواجهة الأهلية فصائلياً هذه المرة وليس طائفياً أي إحلال الصراع الثانوي محل الصراع الرئيسي مع المحتل الإسرائيلي المؤجج والمتفرج بتشف.  
عندما تكون الحروب الاستباقية التفتيتية مفروضة عليك، يكون الخيار الصحيح هو الاستباق على الاستباق بضربة تعيد الاصطفافات إلى فرزها الحقيقي. أما الاستباق على استباق الاستباق فيتعلق بتحضيرات المواجهة اقتصادياً وديمقراطياً وإعلامياً، أي جملة تلك الإجراءات والسياسات والقوانين التي تخدم وتعبئ الشرائح الأوسع والأفقر في المجتمع الذين يشكلون وقود المواجهة الحقيقي.