الاحتلال الأمريكي يخطط لعراق بلا شعب!
ما لا يراه العالم هو ان القتال الاساسي في العراق هو ما بين الاحتلال من جهة ومقاومة الاحتلال من جهة ثانية. أما كل اقتتال آخر فهو مختلق.
تتوالى ضجة نشر التقارير والبرامج وتشكيل اللجان من الإدارة الأمريكية للتخلص من المأزق الذي ورطت نفسها فيه. اخرها تقرير لجنة بيكر ـ هاملتون. ولم تقدم اللجنة، على الرغم من كل الضجة الاعلامية التي صورتها بانها لجنة المعجزات، جديدا. بل ان نتائجها وتوصياتها المستندة الى تغيير طفيف في اللغة مشابهة الى حد كبير بنتائج تبادل الزيارات ما بين الإدارة الأمريكية ومستخدميها من المنخرطين بالعملية السياسية في العراق. قد تكون هذه التوصيات، مفيدة اعلاميا بالنسبة الى الرأي العام الأمريكي الا ان اهميتها تقل تدريجيا وهي تنتقل، نظريا، الى الرأي العام الأوربي. انها، عموما، مثل الحبوب المسكنة للآلام داخل مجتمعهم وأنظمتهم وهي غير صالحة كعلاج.
وتضمحل أهمية توصيات اللجنة الى حد لا تساوي فيه حتى الورق الذي كتبت عليه عندما تصل الواقع العراقي(وهي محكومة بالفشل لأسباب عديدة، جوهرها هو محاولة المستعمر تغييب الشعب العراقي عن عراقه بل والغاء وجوده. وتعاملهم مع العراق وكأنه خلق لحظة الغزو وسكانه هم كل من دخل الى العراق مع القوات الغازية طمعا في الغنائم والسلطة والانتقام، بأي شكل وبأي ثمن.
وتأتي توصية اللجنة لادارة الاحتلال بعدم الانسحاب الفوري من العراق كنصيحة طبيب يوصي مريضه المصاب بالغنغرينا في ساقه بتأجيل عملية البتر مدة عام، املا في تحسن الحال.
يقول الفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون (1925 ـ 1961) الذي عايش حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي بأن الاستعمار يستغل، بلا وازع اخلاقي، كل الاساليب الممكنة، أو يلعب على كل الحبال، ليكرس وجوده وسياسته في البلدان المحتلة. ففي كل بلد افريقي مستعمر (بفتح الميم) تم تقسيم المجتمع الى مجموعات دينية مختلفة تتناحر فيما بينها، بينما يقف المستعمر واعوانه على مبعدة وهم يقهقهون فرحا لنجاح مشروعهم.
وهذا هو بالضبط ما يحدث في العراق اليوم. فكم من الناس يتذكرون اليوم سبب غزو العراق؟ القلة القليلة من الناس. لم يعد هناك من يتذكر ذريعة اسلحة الدمار الشامل وتهديدها العالم كله وقدرتها على استهداف بريطانيا خلال 45 دقيقة. ما يعرفه العالم هو ما يراه من خلال اجهزة الاعلام اخبارا وتصريحات، وما يتلقاه معظم الناس، عبر الاعلام، هو تكريس لمصطلحات التفرقة المتغيرة حسب رغبات بوش وبلير مثل "السني المتطرف" و"الشيعي المتطرف"، فضلا عن الصورة السوريالية، الخارقة لكل مفهوم، التي حاول الاثنان رسمها، مؤخرا في مؤتمرهما الصحفي المشترك في واشنطن، عن حكومة المالكي عندما وصفاها بانها حكومة علمانية. وهو نعت يماثل في غرابته وشططه وصف حكومة الفاتيكان بانها حكومة علمانية!
ما يراه العالم اعلاميا هو قتل العراقيين لبعضهم بعضاً. ما يقال هو أن السني يقتل الشيعي، والشيعي يحرق السني ويهدم مساجده، وما ينشر هو أن الانتحاري السني يفجر نفسه في الباصات ومواقف السيارات، وأن الشيعي الراديكالي يحرق الكنائس ويقتل المسيحيين ويروع الاشوريين واليزيديين. وان النساء في الجنوب مهددات والرجال لصوص، اما في الشمال، في مدينة كركوك تحديدا، فيقال لنا الكل يهاجم الكل. العرب والتركمان والاكراد. والمفخخات تنفجر وسط الاسواق. ما يراه العالم هو ان كل من يقاوم الاحتلال هو صدامي تكفيري من جماعة القاعدة وان مقاومة الاحتلال هي رجس من عمل الارهاب يستهدف ديمقراطية العراق الجديد!
إن ما لا يراه العالم هو ان مقاومة الاحتلال وطنية شرعية تستقطب دعم الشعب العراقي المناهض للاحتلال. انها مقاومة الحرية ضد العبودية والخنوع. وانها مقاومة باسلة تعتمد بالدرجة الأولى على قدرات افرادها وتضحيتهم بحياتهم. ولعلها المقاومة الوحيدة في تاريخ الشعوب وحاضرها التي تقف وحيدة بلا دعم من دولة او منظومة كما كان حال ثورات التحرر الوطني سابقا. ان ما لا يراه العالم هو انها المقاومة المستهدفة مباشرة من اقوى قوة عسكرية في العالم وعملائها المحليين وبميزانية مادية ضخمة فضلا عن تسخير اجهزة الاعلام والترويج الدعائي ومثقفي الاحتلال، واستخدام الجيش الثاني أي المرتزقة من جميع أصقاع الأرض الذين بلغ عددهم 100 ألف شخص، أي ما يوازي قوات الاحتلال الأمريكي تقريبا. أنها من تستهدفه القواعد الخمس العملاقة والخمسون الأخرى المتوزعة في بلادنا والأقمار الصناعية واجهزة التنصت المزروعة والكاميرات الليلية وطائرات الاستطلاع والعملاء العراقيين وغير العراقيين.
ان ما يراه العالم هو تشويه المقاومة المتعمد وتصويرها بانها المسؤولة عن جرائم الاحتلال بانواعها من القتل العشوائي والمفخخات والتفجيرات عن مبعدة وحملات المداهمة والاعتقال والتعذيب واغتصاب النساء الى قتل الاطفال بتهمة الارهاب، متناسيا بان الارهاب الاكبر في بلدنا هو ارهاب الاحتلال. وما لا يراه العالم هو العمليات العسكرية المتطورة الناجحة ضد العدو التي تجاوزت معدل العملية الواحدة كل 15 دقيقة.
وما لا يراه العالم هو ان القتال الاساسي في العراق هو ما بين الاحتلال من جهة ومقاومة الاحتلال من جهة ثانية. أما كل اقتتال آخر فهو مختلق. وليس بامكان العالم رؤية الحقيقة لان ارهاب الاحتلال الشرس يقوم يوميا بتصفية كل صوت عراقي وطني مناهض للاحتلال يحاول نقل الحقيقة الى العالم الخارجي. فكان مشروع تصفية وترويع وارهاب الصحافيين العراقيين والعرب والاجانب والاصوات المستقلة العاملة في اي مجال اعلامي من اولويات الاحتلال. هكذا بات على العالم الخارجي تلقي المعلومة والخبر والتحليل، غالبا عبر تمريرها بمرشحات الاحتلال المختلفة ان لم يكن بعدساته.
ان سنوات الاحتلال المريرة والتكلفة البشرية الهائلة التي تجاوزت 650 ألف شهيد وخراب البنية التحتية وتحطيم الدولة ونهب الثروة الطبيعية تثبت، بما لا يقبل الشك، بان مشروع الاستعمار الجديد هو ابادة الشعب العراقي او تفريغه من مواطنيه. وقد نجح منذ عام 2003 وحتى الآن بإجبار عشرة بالمئة من سكان الشعب العراقي على الهجرة خارج الوطن، وهم من خيرة المثقفين والمتعلمين، فكيف الخلاص؟
ان الخلاص يبدأ بخطوات بسيطة للغاية وهي الاعتراف بحق الشعب العراقي في مقاومة المحتل بكل السبل الممكنة وهو حق مشروع قانونيا واخلاقيا وتدعمه قرارات الامم المتحدة. الخطوة الثانية هي دعم المقاومة العراقية خاصة من الناحية الاعلامية، واطلاق المسميات الصحيحة عليها وعلي عملياتها. ولنكن واضحين، اعلاميا على الاقل، فمن يضحي بحياته في عملية تستهدف قوات الاحتلال هو شهيد وليس ارهابيا. والجهة التي تستهدف قوات العدو هي مقاومة وليست "مسلحين" كما يحلو للبعض تسميتها. ان مقاومة التضليل الاعلامي المحيط بالوضع السياسي والعسكري والاقتصادي وطرح الاسئلة بصدد المبادرات والتخطيطات على اختلاف الوانها سيساعد على رؤية الاحتلال وافعاله والمقاومة وعملياتها بوضوح. ان فعل المقاومة في العراق، كما هو في فلسطين ولبنان، هو فعل الدفاع عن النفس وحق الحياة بعزة وكرامة.
■ هيفاء زنكنة/كاتبة عراقية
ميدل ايست اونلاين