لبنان: صراع مفتوح الاحتمالات.. وإسرائيل أعجز من أن تتدخل..
لا تزال حالة الاحتقان السياسي سيدة الموقف على الساحة اللبنانية التي تشكل مسرحاً آخر من مسارح الصراع مع المشروع الإمبريالي الأمريكي الصهيوني بأدواته وأزلامه وثنائياته الوهمية. فإلى أين تتجه الأمور حالياً في لبنان؟ وما حقيقة وحجم تسليح جماعات جعجع وجنبلاط والحريري؟ وماذا عن معزوفة التدخل السوري؟ وما دور الأداء الاقتصادي الاجتماعي لحكومة السنيورة وباريس 3 فيما يجري؟ وماذا عن قوات اليونيفيل ووضع المقاومة الوطنية اللبنانية؟ وما هي المخارج من حالة الاستعصاء القائمة وارتباطها بأوضاع المنطقة؟
هذه الأسئلة وغيرها حملناها هاتفياً إلى لبنان لأن «أهل مكة أدرى بشعابها»، وكانت هذه الحوارات التي نعيد إخراجها حسب محاورها مع ضيوفنا الذين حال ضيق وقتهم في منحنا أوقاتاً متساوية فيما بينهم جميعاً دون أن يؤثر ذلك بالطبع على قيمة المعلومات والمواقف التي قدموها، وهم حسب الأحرف الأبجدية: الدكتور علي فياض رئيس مركز الدراسات والأبحاث في حزب الله، والأستاذ غالب أبو مصلح الباحث الاقتصادي من جبل لبنان، والأستاذ ميخائيل عوض الكاتب والمحلل السياسي من بيروت. حاورهم عبادة بوظو.
ما هي قراءتكم للحظة الحالية في لبنان؟ إلى أين تتجه الأمور، نحو الحسم أم الفوضى؟
د. علي فياض: ليس بالضرورة أن يكون المستقبل محكوماً بالفوضى أو الحسم، أغلب الظن أن الأمور تتجه باتجاه المراوحة التي ستستمر لأشهر عدة. ويبدو لغاية الآن أن كل المحاولات التي جرت من أطراف إقليميين أو دوليين لإيجاد أي نوع من الحل أو التسوية بين الفرقاء باءت بالفشل. المبادرة العربية الأولى والثانية فشلت، ومن ثم الاتصالات الجانبية التي حصلت أيضاً بمساعدة من السعودية مثلاً لم تفض إلى نتيجة ولم تجد طريقها للتطبيق أو بتعبير أدق بقيت مجرد أمنيات عامة أو ملاحظات لم تتحول إلى مبادرات فعلية.
وماذا بخصوص الوساطة السعودية الإيرانية؟
■ د.علي فياض: هذه الوساطة وعلى الرغم من ماراثونيتها، لم تفض لغاية الآن إلى نتيجة عملية. طبعاً لها آثار إيجابية للغاية كونها التقت على تقدير الطرفين بضرورة قطع أي محاولات للفتنة في لبنان أو في أية ساحة أخرى. ولكن على مستوى إيجاد تسوية عملية تشكل مخرجاً من المأزق الذي تشهده الساحة اللبنانية هذا لم يجر الوصول إليه لغاية الآن. وإذا قلنا بأن الأطراف الدولية تسعى إلى حل فعندها سيكون مشروعاً تماماً السؤال عن السبب الذي يعقد الوصول إلى ذلك الحل. والمقصود هنا بالتحديد هو معرفة ماهية الموقف الأميركي الذي يقف حائلاً ويضع الخطوط الحمراء، والذي، تحت ذريعة حرصه على مصلحة لبنان، رفض رفضاً كاملاً ولم يسمح بالوصول إلى حل أو تسوية.
■ أ. غالب أبو مصلح: ليس بالضرورة الحسم، ماذا نعني بالحسم؟ هل نعني استلام السلطة من جانب المعارضة الوطنية؟ إذا كان هذا هو الحسم فلا أعتقد أن اللحظة الراهنة تسمح بهذا الشيء، ففي النهاية لا بد من حلول دبلوماسية أو حلول ناتجة عن المفاوضات والتوافق الذي يجب أن يلبي حاجات المعارضة أو على الأقل الشروط التي طرحتها، وهي: أولاً، المشاركة بالحكم بأكثرية ضامنة، وثانياً إجراء انتخابات مبكرة للعودة إلى الديمقراطية، إلى حكم يمثل حقيقة الوضع الديمقراطي والشعبي. هذان الشرطان ضروريان وأساسيان جداً للوصول إلى حلول وإلا فالأمور ستبقى متوترة، ولكنها لن تنتقل برأيي إلى فوضى عارمة، إلى الفلتان، كما يجري في العراق، لأن قوى المعارضة في لبنان تملك الأكثرية الشعبية الساحقة ولا تمثل فعلياً فئات طائفية ودينية في وجه فئات وطوائف دينية أخرى بل إنها تمثل تمثيلاً حقيقياً وواقعياً كل المذاهب والطوائف في لبنان وفي كل المناطق، في حين أن الحكومة لجأت للخداع من أجل الحصول على أكثرية نيابية، وهي تحاول عبر هذه الخدعة واستمرارها أن تقود لبنان وتتحكم به لإلحاقه بالمركز الغربي الرأسمالي المهيمن، أي الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها في أوروبا وإسرائيل.
■ أ. ميخائيل عوض: نحن الآن على عتبة مفترق طرق حاد وخطير. الفوضى احتمال ونسبته عالية، وأيضاً الحسم احتمال قائم ونسبته عالية. ما أود الإشارة إليه هو أننا الآن في دائرة الفوضى وهي ليست احتمالاً فحسب. والسؤال المطروح: هل تجري عملية حسم ستقطع دابر الفوضى وتنهي مخاطر توسيع بيئتها إذا ما استمرت التوترات الأمنية إلى زمن أطول؟ من شأن ذلك أن يوفر البيئة والشروط المناسبة لأن تطيل الفوضى زمناً طويلاً، الحسم ربما هو المطلوب وموازين القوى تشير إلى ذلك. لكن وكما هي كالعادة يعترض الحسم أحد أمرين: إما ارتباك في قيادة المعارضة وعدم تقدير خطورة اللحظة والظرف، أو أنه ليس هناك قرار بالحسم وذلك تبعاً لرؤية أو مصلحة تفترض أن حالة الفوضى يمكن أن توفر بيئة تستثمر فيها المعارضة وحلفاؤها أكثر من بيئة حسم تحمِّل المعارضة أعباء سلطة سياسية مأزومة ووضع اجتماعي واقتصادي خطير.
وهل يمكن أن تأخذ صيغة الحسم هذه شكل العودة إلى الحوار؟
■ أ. ميخائيل عوض: لا أعتقد ذلك. فالحسم صيغته الوحيدة هي أن تستخدم المعارضة ما لديها من وسائل ومؤسسات ومشروعية دستورية بالإضافة للمشروعية الشعبية والحياد الإيجابي لمؤسسة الجيش والمؤسسة العسكرية فتعزم وتذهب إلى أخذ السلطة السياسية من يد الحكومة التي مزقت الدستور وخرقته وتمردت على مقولات الإجماع الوطني وتثبيت الاستقرار ولجأت إلى تفعيل ميليشياتها وقناصيها الذين بدأوا يعبثون بالاستقرار والأمن.
■ أ. غالب أبو مصلح: ليس كالحوار الذي كان سائداً في الماضي، إذ أنه كان «حوار طرشان»! الآن هناك صراع وهو لن يصل إلى حرب أهلية بفعل إرادة المعارضة وقوتها الحقيقية ولكن بالمقابل هناك ضغوطات ستستمر وتتصاعد على الأرجح إلى أن تصل المعارضة إلى تحقيق مطالبها الأساسية وهي الآن لا تريد إلغاء القوى الحاكمة الملتحقة بالغرب كلياً، وربما أخذ هذا وقتاً طويلاً ولكن الوصول إلى هذه الحلول مرتبط بما يجري في المحيط، لأن المعركة في لبنان ليست من أجل لبنان فقط بل هي جزء أساسي من المعركة التي تجري في المحيط، أي في العراق ولبنان والأردن وسورية وفلسطين.
■ د. علي فياض: نحن منفتحون على الحوار وإمكانية العودة للحوار قائمة ولكنها ليست عملية فلكلورية بلا معنى. سبق أن دُعينا إلى بعض اللقاءات الثنائية لكن أكدنا على ضرورة إحراز تقدم في المنطق السياسي وإلا ماذا يعني الرجوع إلى الحوار كيفما كان، وضرورة أن يكون هناك استعدادات فعلية للمضي قدماً للبحث عن الحل. أما تحويل الحوار مسألة فلكلورية ولفظية فهذه تعبنا منها واختبرناها مراراً وأصبحنا نعرف نهايتها سلفاً.
في خضم ما جرى في لبنان مؤخراً وفي سياق محاولات اختلاق ثنائيات وهمية بعيداً عن القواسم والانقسامات الوطنية، سقط ضحايا وأصبح هناك تراشق بالمسؤوليات حول من استخدم السلاح، السؤال هو ما حقيقة وحجم تسليح القوات اللبنانية وعناصر جنبلاط وعناصر المستقبل؟
■ د. علي فياض: أنا أريد أن أقول وللأسف الشديد إن هناك محاولات تجري على قدم وساق برعاية خارجية لتسليح بعض المجموعات تحت عناوين طائفية أو مذهبية أو ما شابه ذلك وهذا مؤشر خطير داخل الساحة اللبنانية فالجميع يدعي الحرص، لكن من الناحية العملية لا يوجد شيء على أرض الواقع يبشر بالخير.
■ أ. ميخائيل عوض: لا شك أنه هناك عملية تسليح واسعة بدأت منذ أكثر سنة ونصف، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القوات والحزب التقدمي كانوا يملكون أسلحة وبنى عسكرية وشبكة أمنية واسعة طيلة الفترة الماضية ولم يجر تفكيك تلك الشبكة ولم تسلم كل أسلحتها. أما تيار المستقبل فهو حديث العهد وهناك الكثير من المعلومات التي يجري تداولها منذ فترة عن دورات إعداد لمجموعات القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وكذلك تيار المستقبل على نحو خاص، جرت في الأردن والسعودية حيث تم تدريب أكثر من /1500/ من العناصر والكوادر. ويضاف إلى ذلك المعلومات المتداولة والموثقة حول وصول كميات من الأسلحة عن طريق المطار عبر الطائرات الأمريكية وكشفت عنها محطة المنار وغيرها، هذا بالإضافة إلى وثائق أخرى لدى عدد من القوى حول أسلحة أخرى وصلت عبر مرافئ غير شرعية في جونية وبنت جبيل للقوات اللبنانية.
وكيف يمكن الخروج من موضوع التناقضات الوهمية الثانوية التي تحاول الامبريالية الأمريكية خلقها في المنطقة؟
■ أ. غالب أبو مصلح: بالوعي وطرح الشعارات الصحيحة والتدرج بالشعارات ضمن هذه المرحلة. بالطبع هناك ولاءات متعددة في كل بلد وفي كل منطقة من العالم والسؤال ما هو الولاء المهيمن وبالتالي ما هو التناقض الأساسي المهيمن في المنطقة. إن محاولة خلق توترات أخرى أثنية ومذهبية وطائفية تهدف إلى تفتيت القدرة النضالية المقاومة في هذه المنطقة وبالتالي نفاذ المشروع الامبريالي الصهيوني، الآن في لبنان وبالرغم من كل هذا التحريض الجاري على قدم وساق والذي بلغ أوجه في هذه المرحلة لم تستطع كل هذه التحريضات بالتالي أن تحرف المقاومة الوطنية عن أهدافها الحقيقية فمازالت ترفع نفس الأهداف وتقاتل من أجلها ولا تريد أن تنزلق إلى حرب مذهبية في المنطقة وفي لبنان بشكل خاص وتطرح الأهداف الحقيقية، وبالطبع عليها أن تطرح برأيي أكثر فأكثر القضايا الاقتصادية الاجتماعية التي تمس حياة الجماهير حتى تستطيع بالنهاية تقديم برنامج واضح للسلطة ومن أجل ممارسه السلطة.
وما دور الأداء الاقتصادي الاجتماعي لحكومة السنيورة، وموضوع باريس3 بما يجري على الساحة اللبنانية؟
■ أ. غالب أبو مصلح: حكومة السنيورة هي استمرار للنهج الذي اتبعته «الحريرية» في لبنان، فمنذ أن استلم الحكومة رفيق الحريري وحتى الآن هناك نهج واحد، وفؤاد السنيورة ومن يعمل معه كان جزءً أساسياً من هذا الفريق الحاكم في لبنان الذي يمثل طبقة حاكمة تمر بأبشع أزمة تاريخية بمعنى أنها فقدت دورها التاريخي. هذه الطبقة منذ 1992 تتبنى إيديولوجيتها الليبرالية الجديدة التي طرحها المحافظون الجدد عند وصولهم إلى السلطة في بريطانيا والولايات المتحدة، هذه الليبرالية المتوحشة التي كانت لها كوارث عديدة في كل بلدان العالم الثالث التي طُبقت هذه المبادئ. طبعاً هذه الليبرالية تعبر عن إيديولوجية الرأسمالية العالمية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة. وهذه الإيديولوجية تعمل لمصلحة هذه الرأسمالية وإخضاع بلدان العالم الثالث لمصالحها وفتح أسواقها لهذا الغزو الامبريالي العالمي. وحكومة السنيورة هي امتداد لهذه الأزمة التي تريد إلحاق لبنان بالمراكز الأوربية وفتح السوق اللبنانية أمام الإغراق بالبضائع الصناعية والزراعية والخدمات من قبل الرأسمال الدولي والشركات المعولمة بشكل خاص. وهذا أدى بلبنان إلى الوقوع بفخ المديونية وإلى المزيد من إفقار الشعب اللبناني. ولقد أصبح قرابة 60% من الشعب اللبناني عند خط الفقر أو دونه، وارتفعت البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وهاجر أكثر من مليون لبناني منذ عام 1993 حتى الآن، وكل ذلك وسّع من الفوارق الطبقية وخلق طبقة سوبر غنية وحفنة قليلة من الأثرياء الكبار المحتكرين والملتحقين وهم وكلاء للشركات والبنوك الأجنبية، وهو ما أفقر الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. وهنا تتماثل المصالح الاقتصادية مع المصالح السياسية وهي الالتحاق بالمركز الغربي الامبريالي المهيمن.
■ أ. ميخائيل عوض: حكومة السنيورة الأخيرة هي امتداد لحكومات الحريري التي حكمت البلاد منذ عام 1993 حتى الآن، وأوصلت البلاد إلى دين يفوق (45) مليار دولار أي ضعفي الناتج الوطني القائم وهي أعلى نسبة في التاريخ وفي العالم. البلاد على حافة حالة من الإفلاس وأزمة مالية واقتصادية، وهناك محاولة من القوى الدولية التي ترغب في استخدام لبنان كساحة للصراع وإطلاق الفتن على أساس إستراتيجية الفوضى البناءة وإلى ما هنالك، من أجل تدعيم الفريق الحاكم والحؤول دون الانهيار الاقتصادي وما سيتركه من تأثيرات. أما باريس3 وحسب كل الأرقام التي جرت ويجري تداولها، فهناك 6.5 مليار دولار هي ديون جديدة لا تغني ولا تسمن من جوع وهي مشروطة ومطلوب دفعها كي تفي الحكومة باستحقاقات سندات الخزينة وتقديم خدمات الدَين وفوائدها وهي للمصارف والشركات المالية التي تملكها الطبقة السياسية والطبقة الحاكمة إضافة للمؤسسات المالية الدولية، أي أنهم قدموا عملياً مبالغ لكي يستردوها، خوفاً من حالة الانهيار وعجز الموازنة والدولة عن تسديد سندات وخدمات الدَين. هناك مليار ومائتي مليون دولار التي قيل إنها ستأتي هبات ولكنها مشروطة بشرطين أولاً أن تكون عبر حكومة السنيورة وأدواتها وآلية إنفاقها، والثاني أن تشرف الدول المانحة على المشاريع وآليات الإنفاق، وبهذا المعنى فمؤتمر باريس لم يقدم شيئاً للبنان أو اللبنانيين بل بأحسن الحالات كرس مبدأ المساعدات المسمومة على الطريقة التي شهدناها مع السلطة الفلسطينية.
■ د. علي فياض: نحن ندرك تماماً أن إصرار المجتمع الغربي على انعقاد باريس3 وإنجاحه كان الهدف منه تحديداً هو دعم حكومة السنيورة. وعلى الرغم من ذلك ومن إدراكنا بالأمر جيداً إلا أن موقفنا قام على الفصل بين المسألة الاقتصادية والسياسية. وقلنا إننا لا نمانع في انعقاد باريس3 ونرحب بأية مساعدات تقنية أو مالية يقدمها المجتمع الدولي كمعالجة الأزمة الاقتصادية وهذا مفصول تماماً عن ملاحظاتنا الجوهرية حول الورقة الاقتصادية التي قدمتها الحكومة.
ولكن تردي الوضع الاقتصادي الاجتماعي يشكل أرضية مشروعة لتحرك المعارضة اللبنانية؟
■ د. علي فياض: نحن تلتزم بهذه المواقف ولكن بالمقابل لدينا موقف نقدي تجاه سياسات الدولة حتى فيما يتعلق بالنتائج الاقتصادية لباريس3، فهي نتائج لا تعالج أزمة لأن المبالغ التي حددت دولياً لمعالجة الأزمة المالية العامة أو المديونية العامة هي محدودة جداً قياساً بالأموال التي خصصت لدعم المشروعات التنموية بإشراف المؤسسات المانحة نفسها أو بإشراف المؤسسات الدولية أو صناديق التنمية الدولية. وعلى أية حال فإن أولى انطباعاتنا على نتائج باريس3 هو أن هناك قراراً دولياً بضرورة إنعاش الوضع الاقتصادي اللبناني لكن ليس معالجته! فما يريده المجتمع الدولي هو الحؤول دون انهيار الوضع الاقتصادي وتقوية حكومة الرئيس السنيورة لكن طبيعة المساعدات التي منحت من الأطراف الدولية لا تؤشر إلى وجود رغبة حقيقية بإخراج الاقتصاد اللبناني من أزمته الخانقة لأنه يحتاج إلى صنف آخر من المعالجة مختلفة تماماً عما قدم في باريس3.
من الملاحظ أنه مقابل العجز الحكومي اللبناني تلجأ السلطة اللبنانية الحالية دائماً إلى العزف على وتر التدخل السوري الأمني... ما هي حقيقة الموضوع؟
■ أ. ميخائيل عوض: فيما المعطيات والأمور واضحة وغير ملتبسة لجهة التدخل الأمني والعسكري والسياسي والدبلوماسي لسفراء الدول الغربية وللسفير السعودي والمصري والتدخل بأدق التفاصيل وكما قلت سابقاً هناك وقائع أكيدة عن تسليح فرقاء لبنانيين، وبرغم هذه الظاهرات المكشوفة والمعروفة لم يستطع فريق السلطة أن يثبت بواقعة واحدة أن هناك تدخلاً أمنياً سورياً وعلى أي من المستويات. السوريون انسحبوا كقوة أمنية وعسكرية وسياسية من لبنان وثبت ذلك من لجنة تقصي الحقائق الدولية التي أصدرت بيانها عندما تم انتدابها للبنان، وبالتالي لا يوجد سوى المزيد من الاتهامات وليس هناك من مؤشرات حقيقية.
أ. غالب أبو مصلح: يعتبر هذا نوعاً من التضليل. فأين التدخل السوري الأمني الآن؟ لا شك إن الوجود السوري السابق كان له إنجازات كثيرة وارتكب الكثير من الأخطاء أيضاً، وخاصة لجهة تثبيت حكم هذه الطبقة الملتحقة وعدم مساعدة الطبقات الشعبية وممثليها الحقيقيين على النهوض والوصول إلى السلطة والمشاركة فيها. ولكن الآن أين هو التدخل السوري؟ هناك مَثَل في لبنان يُردد للتهكم عندما يحاول البعض أن يبرر شيئاً أو جريمة ما، فيقول: «كل الحق ع الطليان» والآن أصبح الحق على السوريين، مهما حدث! وهذا هراء، ونوع من التحريض الذي تتداخل فيه النوايا والمصالح الغربية مع الشوفينية اللبنانية التي حاولت بعض الإيديولوجيات اللبنانية أو ما يسمى بالقومية اللبنانية التركيز عليها للابتعاد والانسلاخ عن العمق العربي. ولكن عمقنا الأساسي هو سورية. ولا يمكن إطلاقاً للبنان التقدم والتطور إلا بالتلاحم مع سورية، وإذا كان سايكس بيكو مرحلة استعمارية قد انقضت، فأنا أشك الآن في الموضوع المتعلق بتغيير الدستور والدور الاقتصادي بل بمشروعية الكيان (الحكومي اللبناني-م) الذي أصبح على المحك بلا دور سوى التآمر على الداخل العربي وبالتالي فإن هذه المعركة تضع الكيان وحتى أفقه التاريخي على المحك.
وما هو الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسرائيل في الساحة اللبنانية؟
■ أ. غالب أبو مصلح: الدور الأوربي لا يختلف إطلاقاً عن الدور الأمريكي وخاصة في هذه المرحلة. وإذا أخذنا الدول الأوربية الأساسية فرنسا، بريطانيا، ألمانيا فإنها، على ما يبدو، ونتيجة الضعف الأمريكي والمأزق الأمريكي في العراق والمنطقة، عادت لها الشهية الاستعمارية، وهي تحاول أن ترث النفوذ الأمريكي كما ورث النفوذ الأمريكي النفوذين الفرنسي والبريطاني في المنطقة سابقاً، وبالتالي نجد السياسة الفرنسية أكثر شراسة وعداءً واستكلاباً على التدخل والسيطرة في هذه المنطقة من السياسة الأمريكية. وينطبق الأمر ذاته على ألمانيا بعد استلام ميركل الحكم هناك: تصريحاتها وتصريحات وزير خارجيتها توحي بعودة الشهية الألمانية للعودة إلى المنطقة كقوة استعمارية، وأمريكا تدعم هذا الشيء ولكنها تريده مساعداً للدور الأمريكي وليس بديلاً عنه أو وارثاً له. فأمريكا تقود أوربا نحو مغامرات استعمارية جديدة كما هو الحال الآن مع حلف الناتو وتدخله في أفغانستان بقيادة أوربية وذلك من أجل أخذ عبء كبير عن السياسة الأمريكية في المنطقة ومشاركة أمريكا بكل طموحاتها العسكرية والاستعمارية للهيمنة والسيطرة.
وهل من احتمال بتجدد الحل العسكري الخارجي دعماً لحكومة السنيورة أو توسيعاً لدور اليونيفيل باتجاه فرض سحب سلاح حزب الله؟
■ د. علي فياض: يطمح حتى أطراف السلطة الداخليين بأن يتمكنوا من استجلاب التدخل الدولي إلى الساحة اللبنانية أو أن تلعب القوات الدولية المعززة دوراً داخلياً داخل التوازنات في الساحة اللبنانية وهذه مسألة شديدة الخطورة بل حتى أبعد من ذلك يجب أن نضع في الحسبان دائماً بأن ورقة العودة إلى الحرب بالنسبة لإسرائيل مجدداً هي إحدى الخيارات التي يبيتها أعداء المقاومة ضد المقاومة. وبرأيي سيخطئ كثيراً من يفكر بهذه الطريقة ويعتمد على هذه الخيارات لأنه سيترتب على هذا أثمان كبيرة سيدفعها كل اللبنانيين وليس طرفاً واحداً.
■ أ. ميخائيل عوض: هناك تهويل لدى الإسرائيليين، وهم مذعورون من التطورات وهم يعتبرون أن الحكومة الحالية هي أداتهم في إفشال نتائج الانتصار والانقلاب عليه ولديهم شبكات للتخريب وقاموا خلال الأيام الماضية بطلعات جوية استفزازية مع إسقاط البالونات المسمومة وإلخ. أما أن تقوم إسرائيل بحرب، فلو تسنى لها ذلك وتوفرت لديها الإمكانيات فهي معنية بالتأكيد بأن تدعم فريقها الحاكم في لبنان والمسيطر على بعض المناطق، ولكن يمكنني القول إن إسرائيل ليست في وضع يسمح لها بالقيام بحرب أخرى بعد حرب تموز والنتائج التي حصدتها منها. من جانب آخر، فاليونيفيل وقوتهم التي تصل إلى عشرة آلاف عنصر عاجزون عن القيام بأية مهمة بالجنوب، بل إنهم انتدبوا لحماية شمال فلسطين أي حماية الكيان الصهيوني وإذا ما تم إقحامهم بالوضع الداخلي فلا تعدادهم ولا إمكاناتهم أو قدراتهم تفي بالغرض. وأما أن تُنتدب قوى أخرى إلى لبنان، فالأكثرية الشعبية والمؤسسة العسكرية ومواقع دستورية ترفض ذلك، وهذا يعني أن الغرب، أوربا وأمريكا، سيكونان معنيين بحرب غزو جديدة للبنان، واعتقد أن موازين القوى لا تسمح لهم بذلك لا من قريب ولا من بعيد. ولكن الروح والمخططات العدوانية قائمة. السؤال هل تتوافر إمكانيات التنفيذ أم لا؟ الساحة اللبنانية أعقد من أن يستطيعوا القيام بأعمال من هذا القبيل.
■ أ. غالب أبو مصلح: ليس هناك أي فرصة لهذا الاحتمال! أولاً من أسقط البند السابع ليس دموع السنيورة وسياساته وغيره بل انتصار المقاومة، وكل قوة اليونيفيل التي أتت إلى لبنان لم تأت إلا بعد أن أخذت ضمانات من المقاومة أنها تقبل بهذا الدور، ومؤخراً عندما احتدم النقاش كان هناك تكالب على معرفة موقف المقاومة من وجود اليونيفيل، فإذا قالت المقاومة أننا نرفض الآن وجود اليونيفيل فلن يبقى جندي واحد لليونيفيل في جنوب لبنان، وبالتالي فإن توسيع هذا الدور ليس منّة من أحد، لا من حكومة السنيورة ولا من الدول الأوربية ولا من أمريكا. الآن لو كان بمقدور أمريكا أن تحتل لاحتلت، ولكن إسرائيل ذراعها الأقوى فشل في أن يفعل أي شيء ضد المقاومة، فشل في أن يحتل جنوب لبنان ولو مؤقتاً، فشل في الوصول إلى الليطاني، فشل فشلاً ذريعاً عسكرياً ونفسياً، وبالتالي ليست هناك قوة أوربية، أو محلية أو عالمية لديها الاستعداد للدخول في مغامرة في لبنان لأنها تدرك قوة المقاومة في لبنان، وهي مقاومة أثبتت قدرتها سابقاً منذ 1982 وحتى الآن. وبالتالي فهذا الاحتمال هو للتهويل فقط وليس له قاعدة حقيقية أو منطقية.
في العموم هناك تأثير لما يجري في لبنان وارتباطه بما يجري في المنطقة، في العراق فلسطين.. وهنالك أيضاً محاولة لتضخيم التناقضات الثانوية وحرف القضية عن مسارها الأصلي، أي الصراع العربي-الإسرائيلي، وتناقض المشروع الشرق أوسطي والمشروع المضاد، ما تعليقكم على ذلك؟
■ د. علي فياض: إن هذا الربط هو ربط موضوعي من ناحية ما، فهكذا كانت دائماً طبيعة الأزمة اللبنانية، ولكن ما نلاحظه هو أن الأمريكيين يتعمدون إقحام الساحة اللبنانية في حساباتهم الإقليمية، وبالتالي فهم يطلقون مواقفهم باتجاه الساحة اللبنانية بالاعتماد على حساب مأزقهم في العراق وصراعهم مع الإيرانيين والسوريين والقضية الفلسطينية، وهذا ما يعقد الأزمة ويزيد ارتباطها بالتعقيدات الإقليمية في المنطقة ككل.
■ أ. غالب أبو مصلح: هي ليست فقط بالتناقض العربي الإسرائيلي، هي التناقض ضد الامبريالية الأمريكية بشكل خاص. وإسرائيل لا تعدو كونها قبضة بيد الامبريالية الأمريكية وأداة استعمارية غربية في هذه المنطقة. هذا الدور الذي أسس إسرائيل وأنشأها، وتستمر إسرائيل في لعب هذا الدور. وبالتالي فإن ما يجري في لبنان هو جزء من هذا الصراع في المنطقة ككل، وأعتقد أن مركز الثقل الحالي في هذه المعركة هو العراق الذي يعتبر جائزة كبرى وهي البؤرة التي تهزم فيها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تهدد كل هذه الهجمة الامبريالية على المشرق العربي ككل.
■ أ. ميخائيل عوض: الساحات اللبنانية والفلسطينية والعراقية هي مسرح عمليات واحد. هكذا تتعامل معه القوى الغربية والمشروع الغربي. الغرب الآن يستشعر خطر هزيمة ماحقة تقترب لحظاتها الأخيرة في الدوائر الثلاث وبالتالي الانحسار عن منطقة الشرق الأوسط بالرغم من أهميتها الإستراتيجية والاستثنائية، ولم يعد لديه إلا وسيلة واحدة لتعويم مشروعه وكسب مزيد من الوقت، وهي الفتنة أو ما يسمى بالفوضى الهدامة، وهم يسعون إلى ذلك. وأنا من القائلين بأن هذا المشروع ليس له قابلية لتحقيق الأهداف الاستعمارية في المنطقة.
وفي ظل استمرار حالة التنازع بين المشروعين، ما هي المخارج؟
■ د. علي فياض: المخارج هي في البحث عن تسوية حقيقية بين اللبنانيين تقوم على الشراكة الفعلية، وفيما يتعلق بالمنطقة فإن جزءاً من مهماتنا الوطنية هو أن يبقى لبنان في موقع الداعم للقضية القومية التي تشكل الأساس وأيضاً في موقع الرافض لسياسات الهيمنة الأمريكية وتدخلها في الشأن اللبناني وفي كل شؤون المنطقة وهذا هو أحد أبعاد الصراع في الحقيقة، لأن الأمريكيين خطفوا البلد على مدى أكثر من عام، وفريق السلطة رهن البلد للسياسات الأمريكية ومصالحها في المنطقة على مدى العام الفائت، وعندما نطالب بحكومة وحدة وطنية وبقرار سياسي متوازن فإن هدفنا من ذلك هو أن نعيد إنتاج الموقع السياسي اللبناني بما يحرره عملياً من الهيمنة الأمريكية وهذا هو أحد أبعاد الصراع التي لا ننكرها ولا نخفيها.
■ أ. غالب أبو مصلح: المخرج الوحيد هو المقاومة والانتصار ليس هناك حل وسط بين هذه الهجمة الامبريالية وحقوق الجماهير ومصالحها. في العراق هناك حرب وأعتقد أن أمريكا خسرتها كما هو معلن لدى الكثير من المحللين الأمريكيين وتبحث أمريكا الآن عن مخارج بأقل خسائر ممكنة وهي خائفة على ضياع نفوذها في الدول المحيطة بالعراق ولذلك فإنها تريد الخروج من العراق كما سبق وخرجت من فيتنام مع ضمانات بألا تمتد هذه التداعيات، واعتقد أن عدم توسع هذه التداعيات هو أمر مشكوك به. وأمريكا تبحث الآن عن بدائل لنفط الشرق الأوسط وهو ما جاء في خطاب بوش منذ أيام. وهناك خطط عديدة تدرسها أمريكا مسبقاً بهذا الخصوص، ليس تعففاً عن نفط الشرق الأوسط، ولكن بسبب إدراك مقدار العداء الذي حصدته السياسات الأمريكية الامبريالية والصهيونية في نفوس الجماهير والتي ستجعل هذه المنطقة عند انتصار المقاومة في موضع العداوة المطلقة مع أمريكا وبالتالي فأمريكا تبحث عن مناطق ومصادر أخرى للنفط.
لكن هناك من يرى أن أمريكا هي الآن بصدد الانسحاب من مراكز المدن العراقية والعودة للقواعد الأمريكية في العراق من أجل التحضير لشن عدوان على إيران؟
■ أ. غالب أبو مصلح: كان هذا يقال في الماضي ولا اعتقد أنه قائم حالياً، لأن الرأي العام الأمريكي وإمكانيات أمريكا لا تسمح لها بشن أي هجوم آخر. ومعروف أن الوضع الاقتصادي هو عصب الحرب والقصور الاقتصادي هو الذي يمنع الحروب ويجبر أي دولة على الانكفاء. والآن تعاني الولايات المتحدة من مشكلة بنيوية كبيرة على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي. أولاً تضاءلت قدراتها التنافسية على المستوى الدولي، وهي أكبر دولة مَدينة في العالم حالياً مع تجاوز إجمالي الدَين الداخلي والخارجي الأمريكي (40) تريليون دولار، وهذه كارثة على المستوى البعيد.
أما العجز في حساب المدفوعات الجارية الأمريكي فيقارب المليار دولار سنوياً. وفي المقابل تلحق الصين بالولايات المتحدة سريعاً من ناحية الدخل الحقيقي القائم والقدرة الشرائية المرتبطة به. وبموازاة ذلك نجد القدرات الأمريكية العسكرية في انحسار، كانوا يعتمدون من الناحية النظرية التقنيات العالية بدلاً من القوى البشرية، واستعمال الأسلحة الأكثر تعقيداً بدلاً من العادية والمتعارف عليها عالمياً. ولكن كل هذه البنية الفكرية والإيديولوجية في الدفاع قد انهارت تماماً، وباتت أمريكا الآن تعيد النظر كلياً في بنيتها العسكرية التي فشلت في تحقيق الأهداف الأمريكية. صحيح أنها نجحت في كوسوفو، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في العراق وأفغانستان. القول إن بإمكان أمريكا شن حرب أخرى وتكسبها دون أي خسائر بشرية سقط الآن، ولابد بالتالي من تغيير. ويدور الاتجاه حالياً حول الاستغناء عن القواعد الكبرى واستبدالها بقواعد أصغر وأكثر انتشاراً في العالم، على أن يكون أكثرها قواعد نائمة لا تستعدي الجماهير المحلية، ولكن كل هذه الطرق لا تستطيع أن تنتشل أمريكا من المسيرة الانحدارية للإمبريالية الأمريكية، واعتقد أنها تسير حالياً نحو السقوط النهائي بسبب مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وعداء الرأي العام العالمي لها أكثر من أية دولة أخرى. ولا توجد أي دولة فيها أكثرية شعبية تؤيد أمريكا باستثناء الهند.
إذاً هناك بداية انسداد أفق أمام الامبريالية الأمريكية وبداية انفتاح أفق أمام المد الشعبي المناهض؟
■ أ. غالب أبو مصلح: هذا صحيح وخاصة ما يجري في أمريكا اللاتينية، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، فهناك تجارب اشتراكية تعيد الأمل في إحياء فكر اشتراكي بإمكانه طرح بديل عن النظام الرأسمالي. وهذه بداية، وهم مدركون أنه لولا انغماس أمريكا في حربها على العراق لما فُتح المجال أمام هذه التحولات العميقة في أمريكا اللاتينية. فبعد فترة قصيرة من سقوط الاتحاد السوفييتي كان هناك نظام عالمي أحادي القطبية، ولكن هذه الأحادية تسقط بسرعة. روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كانت تحلم بالبيت الأوربي المشترك وهذا الحلم أثبت أنه غير حقيقي في المطلق، وأن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يؤد إلى اندماج روسيا في أوربا، بل إلى تقدم الهجمة الرأسمالية الأوربية الأمريكية إلى حدود روسيا، وبالتالي ظهر حلف شنغهاي الذي يريد أن يشكل مركزاً قوياً وهو قادر على ذلك في وجه هذه الاندفاعة الإمبريالية ليس فقط في أواسط آسيا بل في كل أنحاء العالم.