الضربة الرئيسية: (ما وراء اهتمام واشنطن المفاجئ بالقضية الفلسطينية؟)
هناك مستجَد في الاهتمام الأمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي، نشهده نشاطا في الآونة الأخيرة، خاصة تجاه القضية الفلسطينية؛ وتجلى في انتقال موقف الإدارة الأمريكية مِن طور الدعم العلني السافر لإستراتيجية الإسرائيليين الأحادية ومحاولاتهم فرض رؤيتهم الأمنية كأساس وبديل للتسوية السياسية، إلى طور إعادة طرح العودة لعملية التفاوض، وادعاء العناية (الأمريكية) بالتوصل إلى تسوية سياسية للصراع.
إنه مستجَد على قدر كبير مِن الأهمية، ويستحق التشخيص، علما أن للتشخيص، أيْ تشخيص، مستويين، ذاك الذي يصف، وذاك الذي يصف ويفسر، أي يبحث في الأسباب والصيرورة، فيكون والحالة هذه نصف العلاج، ويُمَكِّنُ مِن الوصول إليه؛ وكما يمكن حتى للممرض أن يصف العلاج الناجع للمريض إذا كان التشخيص صحيحاً، فإنه، وبنفس الطريقة، وإن كان بصورة أكثر صعوبة، فإن معالجة سياسية سليمة لمسألة سياسية ما، تتوقف على التشخيص الصحيح لها أولا وقبل أي شيء آخر.
وفيما يخص مستجَد الاهتمام الأمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي، وبالقضية الفلسطينية على وجه التحديد، فإنه مِن الضروري والمجدي والأهمية والدقة بمكان أن تأتي قراءته مِن خلال رؤيته في صيرورته، لا في سكونه، ووعيه في ترابطه مع غيره مِن مفاصل الإستراتيجية الأمريكية عموماً، وشقها المتعلق بمنطقة الشرق الأوسط خصوصاً، لا في انفصال عنها، ففي السياسة كما في الطبيعة والمجتمع لا أول بدون ثان.
مِن باب الاجتهاد، لنا عليه أجر إذا أخطأنا، وأجران إذا أصبنا، نبدأ قراءتنا وتشخيصنا لمستجَد الموقف الأمريكي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بعدد مِن الأسئلة: ترى لماذا هذا الجديد في الموقف الأمريكي، وإلى ماذا يشير؟!!! ولماذا جاء في هذا الوقت بالتحديد؟!!! وما الذي دفع لولادته؟!!! وبالتالي كيف ستكون صيرورته وسيرورته؟!!! وهل هو الضربة الأمريكية الرئيسية، أم أنه يأتي في إطار ضرورته لضربة رئيسية أخرى في موقع آخر مِن المنطقة؟!!! أي ما هي، وأين، وكيف ستكون الضربة الأمريكية الرئيسية ؟!!!
معلوم لكل ذي بصيرة سياسية أن القضية الفلسطينية، وبصرف النظر عن طبيعة الموقف الأمريكي ونواياه تجاهها، تشكل محورا أساسيا لا يمكن تجاهله، وأنه طالما كان إبداء الاهتمام الأمريكي بمعالجتها (القضية الفلسطينية) مدخلا استخدامياً للتغطية على ضربة رئيسية تنوي الإدارة الأمريكية القيام بها في المنطقة. في هذا السياق، حريُّ التذكير بدرسِ قريبِ تاريخ (نصدِّقه) الاهتمام الأمريكي بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي عموما، وكان عام 1991 وتجلى في عقد مؤتمر مدريد بعد العدوان الثلاثيني بقيادة الإدارة الأمريكية على العراق، وثبت لاحقا، وعبر انحياز الموقف الأمريكي وتبنيه للموقف الإسرائيلي خلال مجرى المفاوضات، أن ذاك الاهتمام الأمريكي لم يكن أكثر مِن مدخل استخدامي للترتيب والتهيئة لضرب العراق، ولم يتجاوز نطاق الرشوة الضرورية لكسب الدعم السياسي والعسكري للنظام الرسمي العربي ضد العراق وتحطيم مقدراته كجزء مِن المقدرات العربية الموضوعية في مواجهة إسرائيل كقاعدة متقدمة ثابتة ومضمونة للسياسة الأمريكية، وركيزة أساسية مِن ركائز ضمان وتعزيز السيطرة الأمريكية على شعوب المنطقة وثرواتها، والحفاظ على تبعية نظمها السياسية لمصالح السياسة الأمريكية، وإصرارها على ديمومة تفوق ربيبتها إسرائيل على ما عداها مِن قوى المنطقة ودولها.
لم نشأ مِن استحضار دروس محطة قريب تاريخ الاهتمام الأمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي عام 1991، أكثر مِن التذكير بها، والدعوة لضرورة استلهامها والاتكاء عليها في قراءة وتقدير احتمالات صيرورة وسيرورة ما نشهده، ويشهده سوانا بالتأكيد مِن تجديد للاهتمام الأمريكي بمعالجة القضية الفلسطينية تحديدا، وهذا ما يضعنا وجها لوجه أمام سؤال: إلى أيِّ ضربة رئيسية أمريكية يشير راهن تجديد الاهتمام الأمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي؟!!!
بالترجيح لا بالقطع نرى أن هذا الاهتمام، وبالنظر إلى تزامن حصوله مع مصاعب السياسة الأمريكية في العراق، وبعد الفشل العسكري للعدوان الإسرائيلي على لبنان، واستنادا إلى ترافق هذا الاهتمام مع تقسيم أمريكي لنظم المنطقة بين «معتدل» و«متطرف»، وأخذا بعين الاعتبار ما ينطوي عليه هذا التقسيم مِن دعوة مكشوفة وصريحة لإشعال نار الفتن المذهبية والطائفية والقومية في المنطقة، فإن بمقدورنا القول أنه (الاهتمام الأمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي) يشير إلى أن المنطقة مقبلة على عاصفة جديدة هي بحجم، بل أكبر وأشرس مِن «عاصفة الصحراء» لعام 1991 ضد العراق. أما وجهة هذه العاصفة الأمريكية المرجحة، فإنها وعدا تركيزها الراهن على محاولة احتواء وتجاوز مصاعب السياسة الأمريكية في العراق بالمزيد مِن المعالجة العسكرية، كما دلَّ إمعان بوش في إستراتيجيته خلافا لنصائح لجنة بيكر-هاملتون، فإنها (وجهة العاصفة) تقترب رويداً رويداً باتجاه إيران، ويتم الترتيب والتهيئة لها عسكرياً وسياسياً، وفي إطار الأخير (سياسياً) يندرج الجاري مِن اهتمام أمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. هذا التقدير تدعمه العديد مِن الدلائل التي تشير لذات الاحتمال، أبرزها ما يجري مِن حشد عسكري أمريكي في منطقة الخليج لا تقوى على تفسير حجمه ونوعه الحاجة الأمريكية لمواجهة المقاومة العراقية، ويدعم هذا التقدير ما يجري مِن توسيع للدروع الأمريكية الصاروخية في كل بولندا وجمهورية التشيك، هذا التوسيع الذي رأى فيه الرئيس الروسي أكبر مِن الحاجة الأمريكية لمواجهة الطاقة الصاروخية لإيران، وكان سبباً مِن أسباب ما أعلن عنه مِن خطاب جديد تجاه الولايات المتحدة، ذكَّر بخطاب الحرب الباردة. وفي ذات السياق يمكن النظر إلى محاولة الإدارة الأمريكية تهدئة الملف النووي لكورية الشمالية ومعالجته بالطرق السياسية، وكذا حال حثها للحكومة العراقية لمساندة القوات الأمريكية في العراق على ضرب مليشيات طائفية عراقية قريبة مِن الإيرانيين، في مقدمتها المليشيا التابعة لتيار مقتدى الصدر الذي توارى عن الأنظار، وتشير بعض الروايات إلى خروجه مِن العراق إلى إيران، فيما تنفي ذلك روايات أخرى، بينها رواية وزارة الخارجية الإيرانية. ولعل الزيارات المكوكية لوزيرة الخارجية الأمريكية للمنطقة، تندرج في ذات الإطار، أي التهيئة السياسية لهذه «العاصفة»، وما يلزمها، وتقتضيه مِن تحالفات.
يمكن القول إن عودة الاهتمام الأمريكي بملف الصراع العربي الإسرائيلي، يأتي في إطار محاولات تهدئته واحتوائه وتجميده في ثلاجة تكتيك إدارة أزمته، وذلك لأجل، وبهدف التفرغ وصب الجهد الأمريكي الإسرائيلي في بوتقة ما تحضر له كل مِن واشنطن وتل أبيب، وعلى نار هادئة مِن ضربة رئيسية، ويأتي (الاهتمام) كرشوة سياسية لا بد منها لكسب الموقف العربي الرسمي لهذه الضربة، واحتواء ما يمكن أن تولده هكذا ضربة مِن غضب شعبي، يدرك الأمريكيون، وكذا الإسرائيليون الذين نرجح اشتراكهم في ضرب إيران، أن هكذا ضربة ستقود إلى احتجاجات شعبية واسعة في الشارعين العربي والإسلامي.
خلاصة القول، فإننا نرى أن مستجَد الاهتمام الأمريكي بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، ليس فقط لا يعبر عن موقف جاد وجدي يستجيب لضرورة التوصل لتسوية سياسية للصراع، تلبي ولو الحد الأدنى مِن الحقوق الفلسطينية والعربية المغتصبة، بل يشير إلى تحفز صانعي القرار الأمريكي الإسرائيلي للإقدام على اقتراف جريمة مغامرة عسكرية واسعة، تهدف فيما تهدف لصون سيطرة السياسة الأمريكية، وتعزيزها وتقويتها على المنطقة، وحفظ تفوق إسرائيل على دولها وتشديده. ولعل في إصرار الإدارة الأمريكية على اختيار ذات البوابة لهذا الاهتمام، أي بوابة خطة خارطة الطريق و«الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة»، ورفض أية مبادرات مِن طراز الدعوة الفرنسية- الإيطالية- الإسبانية لعقد مؤتمر دولي حول الصراع، ما يدعم هذا الاستخلاص، أي ترجيح إقبال المنطقة على عاصفة، هي كما نرى وجهة الضربة الأمريكية الرئيسية، أما ما عداها مِن تكتيكات، فإنها لا تتجاوز كونها موسيقى تصويرية لهذه الضربة.
■ بقلم: علي جرادات