«بيع قلبك.. بيع وطنك»
فجأة أو «في غمضة عين» فوجئ المصريون بإعلان رئيس جامعة الإسكندرية موافقته على بيع أرض ومباني الجامعة وكلياتها مقابل 12 مليار جنيه «أكثر قليلاً من 2 مليار دولار» وبناء جامعة جديدة على الأرض التجريبية لكلية الزراعة بمنطقة أبيس.
سبب البيع من وجهة نظر رئيس الجامعة حسن نذير خير الله هو تقليل الزحام والتكدس من قلب المدينة وإنشاء جامعة جديدة وفقاً لأحدث المواصفات العالمية. .
منذ إعلان موافقة الجامعة مؤخراً على عملية البيع وإرسالها إلى رئيس الوزراء المصري تمهيداً للموافقة عليها والصحافة المصرية تمتلئ بمئات الأخبار والتقارير.. قلتها تؤيد الخطوة وغالبيتها معارض بشدة. هؤلاء المعارضون وصل الأمر ببعضهم إلى حد القول بوجود شخصيات كبرى تريد الانتقام من مدينة الإسكندرية بأكملها عبر «بهدلة الطلبة» والتخلص من الجامعة التي تعتبر تحفة معمارية وتاريخية والانتقام من السياسة الإصلاحية والشعبية التي اتبعها المحافظ السابق للمدينة عبد السلام المحجوب.
يفند المعارضون أيضاً القرار ويقولون إنه تم من دون دراسة جدوى حقيقية، وتم بسرعة جداً لدرجة تثير الشك والريبة، ثم إن حجة تقليل الزحام والتكدس من وجهة نظرهم مردود عليها بأن ما سيبنى على أنقاض الجامعة سيكون عمارات شاهقة و«مولات» تجارية، وليس حدائق خضراء، ثم يضيف المعارضون ـ إن كل الجامعات الأثرية والكبرى في العالم موجودة في قلب المدن مثل السوربون وأمستردام وكولومبيا وبولونيا.
ولو صحت هذه الحجة على جامعة الإسكندرية باعتبارها سبباً للزحام لوجب بالتالي التخلص من جامعة القاهرة في قلب محافظة الجيزة، وجامعة عين شمس التي تقع في قلب المنطقة مابين ميدان العباسية ومصر الجديدة، وغالبية الجامعات المصرية.
بعيداً عن الجدل بين المعارضين والمؤيدين لفكرة هدم جامعة الإسكندرية مقابل 2 مليار دولار فإن الظاهرة، والقضية التي تستحق الدراسة من وجهة نظري هي حمى وسعار «فلسفة البيع» المنتشرة في بر مصر من أسوان إلى دمياط ومن بورسعيد إلى مطروح.
فهم هذه الظاهرة ومناقشتها تمهيداً لمكافحتها هو الذي سيمنع هدم جامعة الإسكندرية، لأن الأخيرة هي خطوة في سياق سياسة متبعة شعارها أصبح كوميديا ومثيراً للسخرية ويقترب من فلسفة عبد الحليم حافظ في إحدى أغنياته التي يقول مطلعها «بيع قلبك .. بيع ودك .. شوف الشاري مين؟»
أنور السادات بدأ سياسة الانفتاح عام 1974 واتهمه البعض وقتها بأنه باع البلد، الرجل وللإنصاف وضع اللبنة الأولى للخصخصة، لكنه عندما اغتيل عام 1981 لم يكن شيء ذو قيمة قد تم بيعه.. تجريف القطاع العام وسعار الخصخصة بدآ فعلياً بعد الاتفاق بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي أوائل التسعينات من القرن الماضي.
هناك مؤمنون بسياسة الخصخصة وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وهي سياسة قد تكون جيدة عندما تكون هناك نزاهة وشفافية، وسياسة رشيدة، ومحاربة للفساد، ووجود توازن للقوى في المجتمع ناهيك عن تشريعات تحمي العمال، والأهم محاربة الاحتكار..
لكن لسوء الحظ فإن حمى الخصخصة في غالبية العالم الثالث ومصر من بينها تتم بشكل عشوائي، والأمثلة لا تعد ولا تحصى، فصفقة بيع «عمر أفندي» تم وقفها لأن أحد أعضاء لجنة البيع خرج للرأي العام وأعلن أن السعر ضئيل جداً.. فتم إعادة المفاوضات وزيادة السعر.. وهو أمر يثير أكثر من علامة استفهام.
شركة حديد الدخيلة تم بيعها لأحمد عز أمين التنظيم في الحزب الوطني وأحد الأسماء القليلة اللامعة والمتنفذة في سماء السياسة المصرية حالياً.. والكلام عن الصفقة التي حدثت منذ سنوات لا يتوقف، بل تجدد مؤخراً عندما ارتفع سعر الحديد إلى 3800 جنيه للطن، والسبب المعروف للجميع أن الاحتكار هو المسؤول عن انفلات سعر الحديد.
الكلام عن توجيه عائدات الخصخصة لتطوير قطاعات أخرى، لم يتم كما ينبغي.. فمعظم هذه العائدات يذهب إلى الإنفاق الجاري.. وبالتالي فإنه بعد فترة تضيع الأصول الكبرى بلا ثمن.. وإذا أخذنا في الاعتبار عدم الشفافية في كثير من الصفقات يصبح الأمر تجريفاً كاملاً بحق وطن.
المأساة الحاصلة الآن أكبر من مجرد هدم جامعة أو بيع مصنع أو شركة.. إنها أقرب إلى بيع وطن.
ومع الهيمنة الأميركية في كل العالم وخصوصاً منطقتنا، والبلطجة الإسرائيلية وجرأة بعض العرب على تأييد هذه السياسات بل والتحالف معها فالخطورة أن يكون الشعار الآن وفي المرحلة المقبلة هو «بيع قلبك.. بيع حبك.. بيع وطنك.. شوف الشاري مين؟» والشاري معروف ومعلن للجميع..!!
■ عماد الدين حسين/مصر