السقوط.. الابتزاز
كثيرا ما يتم التأكيد عربيا على أن السلام مع العدو الصهيوني هو خيار استراتيجي، وقد تم اعلان المبادرة العربية حاملة لهذا التوجه وذلك على الرغم من ممارسات العدو منذ أن تم زرع كيانه في فلسطين، تلك الممارسات التي تؤكد على أنه لايعبأ ولا يهتم ولا ينوى أن يعيش في سلام في منطقتنا، وأن أطماعه تتجاوز فلسطين إلى المنطقة بأسرها.
لا نود أن نعود إلى وقائع تاريخية تفوق الحصر عاشتها شعوبنا، ولا إلى وقائع معاصرة يشاهدها ويسمعها كل مواطن في بلداننا، حتى من يعيشون في عمق صحارينا الشاسعة. ولكن ينبغي هنا – وللتذكير فقط - أن نسترجع إلى الأذهان موقف العدو بكل مكوناته من يمين ويسار، من عسكريين ودبلوماسيين بالنسبة لواقعة واحدة تبين موقفه بجلاء وهي واقعة حدثت عندما عقدت مصر صفقة الأسلحة التشيكية أواسط خمسينيات القرن الماضي، فقد كان موقف ( موشيه شاريت) وهو دبلوماسي كان يعتبر أهم من يمتلك خبرة دبلوماسية في الكيان الصهيوني وشغل مناصب وزير خارجية ورئيسا للوزراء، كما كان أبرز من كان يطلق عليهم (الحمائم) إذ كان موقفه حينما تم الاعلان عن صفقة الأسلحة التشيكية لمصر هو ضرورة تصفية الرئيس جمال عبد الناصر جسديا فالعدو لا يريد أبدا أن تمتلك مصر أو أي من البلدان العربية أي قدرة عسكرية في حين أنه لايكتفي بامتلاك أحدث ما ينتجه المجمع العسكري الصناعي الأمريكي من أسلحة لم تستخدمها الولايات المتحدة ذاتها، بل ومسموح له، وبمعونات ومشاركة أمريكية وغربية هائلة بتطوير أسلحة تقليدية وما فوق التقليدية، وأسلحة نووية، وكافة أنواع اسلحة الدمار الشامل.
لقد استعدت هذه التفاصيل حينما هبط علينا في مصر مدير عام منظمة منع انتشار الأسلحة الكيماوية طالبا ضرورة تصديق مصر على المعاهدة الدولية لمنع انتشار الأسلحة الكيماوية. والغريب أن يصرح هذا الشخص، وبصدد تداعيات استخدام الأسلحة الكيماوية قائلا: إن استخدامها لا يحقق النصر لجيش أي دولة، وأن استخدامها يعد من قبيل ممارسة الإرهاب، بينما يدفع الأبرياء من المدنيين ثمن هذا العمل غير القانوني وغير الأخلاقي.
ويتجاهل هذا المرائي أن الكيان الصهيوني يمتلك إلى جانب ترسانته النووية والكيماوية الهائلة ترسانة لأسلحة محرمة دوليا، استخدمها العدو في لبنان، ويستخدمها ربما كل يوم في فلسطين، مثلما استخدم العدو الأمريكي ولا يزال يستخدم في العراق وفي أفغانستان كافة أنواع الأسلحة المحرمة، بما في ذلك ذخائر تحتوى على اليورانيوم المنضب وربما المخصب وهي جرائم لا تؤرق ولا حتى تلفت نظر هؤلاء التافهين القابعين في هذه المؤسسات الدولية الذين تحولوا إلى دمى في يد الولايات المتحدة والعدو الصهيوني.
إن هبوط مدير عام منظمة منع انتشار الأسلحة الكيماوية علينا لم يكن مجرد محض صدفة، إذ تشير أحداث مستجدة إلى أنها جاءت كعنصر ابتزاز في هذا الوقت بالذات. ففي خلال الفترة القصيرة الماضية تم ضبط شبكتي تجسس تعملان لحساب العدو الصهيوني (الذي عقدت معه مصر معاهدة صلح وسلام منذ ما يقرب من عقود ثلاثة).
الشبكة الأولى ضمت الجاسوس محمد العطار خريج جامعة الأزهر، وقد حكم عليه مؤخرا بالسجن المشدد لمدة 15 عاما، كما تم الحكم على شركائه في الشبكة من الصهاينة أما الشبكة الجديدة فتضم مهندسا في هيئة الطاقة النووية المصرية وأجانب آخرين، وتم القبض على المهندس المصري وتجري التحقيقات معه.
وقد أحبطت مصر - كما تؤكد مصادر موثوقة- ستاً وعشرين محاولة تجسس اسرائيلية من خلال تجنيد مصريين.
وحمل ضبط شبكات التجسس واحباط المحاولات التي قام بها العدو، رسالة واضحة بأن معاهدة السلام لا تعني الاسترخاء في حماية أمن الوطن كما تؤكد عمليا وواقعيا أن الصراع العربي الاسرائيلي لا يزال على حاله، رغم كل ما جرى من صلح وتطبيع، وأنه لم يغادر موقعه في اطار الصراع الشامل بين الشعوب العربية من ناحية، وبين الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين من جهة أخرى.
وهنا دفع العدو إلى الصدارة (نهج الابتزاز) الصهيوني الإمبريالي (الذي لايتوقف) كرد على ضبط شبكات التجسس، ولإثارة اللغط والابتزاز حول الأسلحة الكيماوية لمصادرة أي أمل يلوح في الأفق باتجاه تحريك ميزان القوي ولو قليلا لصالح بلداننا وشعوبنا العربية خصوصا مع تصاعد المد الشعبي وكذا قوى وطنية هامة في بلداننا تدرك الخطر الماثل، كما تدرك أهمية الدور المنوط بها.
لذا هبط (المسؤول الكيماوي) في أعقاب ضرب شبكات التجسس الصهيونية كحلقة في مسلسل الابتزاز الأمريكي الصهيوني، وربما كمقدمة لسيناريو شبيه بما أتبع في العراق وهذا ما يدحض أية أوهام من أن أحدا سوف يكون بمنأى عن الخطر ومن ناحية أخرى فإن هبوط هذا المسؤول الكيماوي وتصريحاته، في وقت تتصاعد فيه حرب الابادة ضد الأشقاء الفلسطينيين والعراقيين، في وقت تبدي فيه الحكومات العربية استعدادها لولوج طريق السلا م بمقتضي المبادرة العربية، ودون أن يبدي هذا المسؤول الكيماوي أي عطف أو التفات إلى من تدمرهم آلات الحرب الصهيونية والأمريكية، إنما يعطي مؤشرا خطرا ازاء ما تحمله المرحلة المقبلة.
لذلك فانه يتحتم على الحركات الشعبية والقوى الوطنية في مصر وفي بلداننا العربية أن تصعد من حركتها الضاغطة من أجل:
● أن تكون نقطة البدء في التعامل مع مبادرة السلام العربية قائمة على شرطين لا بد من تحقيقهما مقدما الأول هو الوقف الفوري والدائم للمذابح الإسرائيلية ضد الأشقاء الفلسطينيين، ووقف عمليات الاستيطان وتهويد القدس والاعتداء على المقدسات والثاني هو الإقرار ببرنامج زمني لنزع السلاح النووي والكيماوي الإسرائيلي والبدء في تنفيذه
● أن ترفع البلدان العربية على الفور أي شكل من الحصار على الفلسطينيين، وتنفيذ كافة القرارات السابق اتخاذها بصدد هذا الأمر
● وقف كل أشكال التطبيع من كافة البلدان العربية خاصة مصر والأردن لحين تحقيق كافة الأهداف المعلنة حول الحقوق الفلسطينية والتي تمثل الحدود الدنيا المتاحة مرحليا إذ أن الحق الفلسطيني يتمثل في استعادة كامل التراب الوطني.
وإذا كان التآكل قد أصاب عناصر القوة الشاملة مصريا وعربيا بما يهدد بقاء الكيان الوطني لبلداننا، فان الحفاظ على منظومات القوة خاصة بالنسبة لمصر وسورية وتنميتها، كذلك بالنسبة لمن لايزال يمتلك منها شيئا في باقي البلدان العربية، هو الطريق ونقطة البدء في إعادة بناء القوة الذاتية العربية من جديد، لصيانة بلداننا من فناء محقق فيما لو تمكن العدو الامبريالي الصهيوني من تمرير مشروعه في الإقليم.
إن العدو يريد شعوبنا عزلاء، فاقدة لإمكانيات حماية أمنها ليحقق ما يريد، وإن التصدي للأعداء ازاء محاولاتهم العبث في أمن بلداننا الوطني أو محاولات اضعاف قدراتها الدفاعية والتمسك بما لدينا من عناصر القوة وتعظيمها والبناء عليها هو الاستحقاق الملح على شعوبنا وقوانا الوطنية الحية.