الحرب قادمة..
يتصور البعض أن السياسة الأمريكية في العالم على وجه العموم، وتجاه إقليمنا على وجه الخصوص، إنما ترجع إلى حماقة وغباء وتخلف وجهل جورج بوش فحسب. صحيح أن بوش يتصف بالحماقة والغباء والتخلف والجهل. لكن التعامل مع هذه المسألة لابد أن ينطلق من معرفة الواقع الموضوعي الذي أفرز بوش وتشيني وغيرهم، كما أنتج كل الممارسات الأمريكية السابقة لجورج بوش بزمن طويل. ذلك الواقع الذي يؤكد بشكل ساطع أن الامبريالية قد وصلت إلى أقصى درجات انحطاطها. وأن الاستراتيجية الأمريكية لا تتبدل بحلول حزب أو رئيس محل آخر، فالذي يتبدل فقط هو أسلوب تنفيذ الاستراتيجية.
خطة احتلال العراق (وليس مجرد غزو يستهدف إسقاط النظام) وضعت منذ عام 2000 أي قبل وصول بوش إلى البيت الأبيض، وقبل أحداث سبتمبر 2001 . وخطة ضرب إيران مكتملة منذ عام 2002، وكانت هناك ضغوط لإنجازها عقب احتلال أفغانستان وقبل احتلال العراق.
بالنسبة للسياسة الأمريكية الراهنة، فإنها تعكس الأزمة الطاحنة التي تعانيها الولايات المتحدة. فهي أزمة اقتصادية هيكلية مزمنة، ناورت لكي تتجاوزها في سبعينات القرن الماضي بإزاحة الرأسمالية الصناعية والزج بالصناعة إلى الخارج حيث قوة العمل الرخيصة (وبطبيعة الحال فإن هذه العملية لم تتم دفعة واحدة) وتم تتويج الاقتصاد المالي سلطانا جديدا، وهو ما فاقم الأزمة الاقتصادية الهيكلية التي تجلت على سبيل المثال في خسارة أكثر من 30 % من قيمة سوق الأسهم والسندات أي ما يوازي 5 تريليون دولار خلال حكم بوش، وها هي الأزمة تشتعل الآن إذ تتوالى الاهتزازات الشديدة في البورصات الأمريكية وتلقي بظلالها على أسواق المال العالمية. ولا شك في أن الأزمة الاقتصادية الهيكلية المتفاقمة هي قاطرة الأزمة الاجتماعية والسياسية والروحية.
الأزمة الراهنة موصولة بالماضي بالنسبة لبلد قام على الاستعمار والتوسع بالحديد والنار وأحيانا بالشراء، مصحوبا باستهلاك وحشي لثرواته مما أدي لنفاذ معظم موارده من الخامات والطاقة. وهو ما يحرك بعنف الذاكرة التاريخية لكيفية النشأة والتطور في ظروف استنفاذ إمكانيات التوسع الرأسي بما حفز الاندفاع للتوسع الأفقي كضرورة استمرار وفي ظل ميزان قوي دولي مختل منذ عام 1991.
كما توقفت الذاكرة العسكرية الأمريكية عند العام 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية)، محتفظة فقط بانتصاراتها المطلقة في الحرب الأهلية أواسط القرن التاسع عشر ثم بالحرب ضد أسبانيا 1898، ثم الحربين العالميتين الأولي والثانية. ولم تستطع تلك الذاكرة إدراك أن العالق بها منذ سبعة عقود قد تحطم مرتين، الأولي في كوريا عام 1953 والثانية في فيتنام عام 1975 ثم مرة ثالثة عام 2006 في لبنان التي خاض فيها الكيان الصهيوني الحرب بالوكالة عنها (أي عن أمريكا).
بهذه المقدمة الضرورية التي طالت، يجب النظر إلى السلوك الأمريكي في الإقليم.
بداية فإن النظرة الأمريكية للإقليم تحددها الأهداف المطلوب تحقيقها. كما أنها ترى الإقليم من حده الشرقي في باكستان وأفغانستان حتى حده الغربي على المحيط الأطلسي كوحدة واحدة غير متجانسة ومفككة ومنقسمة عرقيا ودينيا ومذهبيا، وفي ذات الوقت فإن الإقليم يمتلك أهمية استراتيجية عالية للغاية موقعا وثروات.
ولذلك فان الإستراتيجية الأمريكية إزاء الإقليم تقوم على الآتي:
- الاندماج الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين .
- نفي مشروعية المقاومة وفرض مشروعية الاستعمار.
- الأمن المطلق لأمريكا والكيان الصهيوني، وبالتالي تحطيم أمن الآخرين باستخدام كل وسائل القسر والإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والعسكري، وفق تحديد وتوصيف التهديدات المفترضة بالمعيار الأمريكي الصهيوني.
- التضليل والكذب دون حدود (على مدى الثلاث سنوات الأولى من حكم بوش صدر 237 تصريح مضلل من بوش وتشيني ورامسفيلد ورايس).
غير أن الاستراتيجية الأمريكية تواجه العديد من الانكسارات المبشرة بهزيمة على المدى المرئي. عالميا صعود قوى جديدة في مواجهتها.
وعلى مستوى الإقليم فشل عسكري في لبنان في حرب يوليو 2006 وحتى انتخابات المتن الأخيرة، وبات فشلهم مؤكداً في العراق، كما يواجهون صعوبات هائلة في أفغانستان، وحتى في باكستان والصومال. وهذا ما يدفعهم وعملاءهم إلى حالة من السعار والمزيد من الضغوط.
غير أن الجديد (القديم) هو «التعمية الاستراتيجية» التي تقوم بها الولايات المتحدة مدعومة بما يسمى نظم الاعتدال العربية والادعاء بالشروع الجاد!! في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية والإعلان عن مؤتمر دولي ينهض بهذه المهمة برعاية أمريكية، إلى جانب مساعدات عسكرية واقتصادية.. الخ!!
ذلك هو صلب عملية «التعمية الاستراتيجية» على الاحتمالات المؤكدة للحرب على إيران وسورية ولبنان لكسر ما يعتبرونه حوائط الصد الباقية أمام المشروع الإمبراطوري الأمريكي الصهيوني. وترجمة مبدأ نفي مشروعية المقاومة وفرض مشروعية الاستعمار وغيرها على أرض الواقع.
حينما يصاب الحيوان المفترس بجرح نازف فإنه يصبح أشد ضراوة، وهو ما ينطبق تماما على الحالة الأمريكية الراهنة. والنزيف الأمريكي اقتصادي وعسكري وسياسي.
فقد وصلت تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان عام 2005 إلى 500 مليار دولار وهو ما يساوي إجمالي النفقات العسكرية لجميع بلدان العالم، وعجز الميزان التجاري لصالح الصين وحدها تجاوز 150 مليار دولار، وتراجع الدولار أمام اليورو بنسبة 38 %، وحتي أوائل هذا العام وصل القرض الفدرالي إلى 9000 مليار دولار (تسعة تريليونات دولار)، منها 3000 مليار دولار منذ عام 2001 (في عهد بوش). والضحايا المعلن عنهم أمريكيا في العراق وأفغانستان أكثر من 4000 قتيل وعشرات آلاف الجرحى والمعوقين والمرضى عقليا وعصبيا. والهيبة الأمريكية في الحضيض و(التطاول) عليها تزايد بشكل غير مسبوق.. الخ.
ما يحفز احتمالات الحرب العدوانية هي الحالة المزرية التي يعيشها النظام الرسمي العربي، وغياب استراتيجية عربية أو قطرية، وتقزيم مفهوم الأمن القومي أو غيابه..الخ. باختصار وبدقة، الغالبية الساحقة من نظم الحكم ترى سلامتها في الهيمنة الأمريكية والوجود الأمريكي، بل والاستقواء به ضد شعوبهم (أي أن الحالة اللبنانية سائدة)، إلى جانب ضرورة تصفية نماذج الصمود الباقية. لذا ينبغي إدراك مقاصد وأهداف عملية «التعمية الاستراتيجية» الجارية، كما لابد من إدراك أن الحريق سوف يمتد واسعا، ولن يكون أحد بمنأى عن لهيب النار!!
لكن الحرب (خاصة العدوانية) لا يقاس النصر أو الهزيمة فيها بمقدار ما يضغط به الطرف الأقوى، ولكن العامل المحدد لكسب الحرب هو مقدار مقاومة الطرف الأضعف. هذا ما شهدناه في كوريا وفيتنام والجزائر، وما شهدناه منذ عام في لبنان، اذ لم تنتج القوة العسكرية العاتية للكيان اليهودي تأثيرا مساويا لها، بل على العكس فلقد أنتجت المقاومة تأثيرا عسكريا (وسياسيا ومعنويا ) أكبر بما لا يقاس مما كانت تمتلكه المقاومة من إمكانيات عسكرية.
ذلك هو قانون المقاومة، وعلى الجميع أن يسأل نفسه (أحزاباً وتيارات وجماعات وأفراداً) ماذا أعد للاستحقاقات القادمة؟