بين الماضي والحاضر: البرجوازية الكمبرادورية تنقض حتى على أدنى مقومات الاستقلال الوطني
في 7 مايو 1920، تأسس بنك مصر برأس مال مصري كامل، علي يد الاقتصادي المصري الكبير طلعت حرب.
كان تأسيس بنك مصر تعبيراً عن الإرادة الوطنية آنذاك، للتصدي لسيطرة رأس المال الأجنبي، شبه الكاملة علي الاقتصاد المصري، في المجالات المختلفة. ورأى طلعت حرب أن تأسيس البنك هو الرافعة لنهضة اقتصادية وطنية، كطريق للاستقلال.
كان طموح جانب من البرجوازية المصرية في ذلك الوقت هو الاستقلال بالسوق الوطني، الذي سلبه رأس المال الأجنبي، بعد إجهاض مشروع محمد علي باشا، ذلك الإجهاض الذي أفضى إلى احتلال مصر عام 1882.
وبالتالي فإن هدف طلعت حرب من تأسيس البنك لم يكن مجرد تأسيس كيان مالي أو مصرفي، وإنما كان تأسيس الكيان الاقتصادي المصري. ولذلك– وفي مواجهة السيطرة الأجنبية الممتدة أفقيا ورأسيا علي الحياة الاقتصادية المصرية، وكذا في مواجهة حرب عاتية لم تهدأ لحظة– استمر في تأسيس شركات بنك مصر التي امتد نشاطها من صناعة الغزل والنسيج إلى السينما، من حلج الأقطان إلى التأمين، من التجارة الخارجية إلى صناعة الزيوت والصابون، من التشييد والبناء إلى الفنادق، من السياحة إلى الأدوية... الخ. أي لم يترك طلعت حرب مجالا إلا ودخل فيه. وكلما توسع هذا الصرح الوطني وأزداد قوة، ازدادت ضراوة الحرب على مؤسسه، حتى تم إخراجه من البنك في ثلاثينيات القرن الماضي في ظروف يمكن تناولها مستقبلا.
استرجعت هذه القضية علي خلفية المشهد الراهن للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر. علي دقات دفوف وسائل الإعلام الحكومية التي لا تتوقف عن حمل نداءات السلطة لرأس المال الأجنبي للقدوم إلى بلادنا، لشراء (والأصح) تصفية أصولنا الإنتاجية وتملك أرضنا وحتى مؤسساتنا الثقافية، بسيل القوانين التي تؤمن لهؤلاء المستثمرين الأجانب والرأسماليين المصريين الكبار كل سبل النهب من إعفاءات ضريبية وجمركية وتسهيلات التملك والإثراء الذي لا مثيل له، إلى فتح السوق المصري علي مصراعيه لتدمير صناعات صغيرة وحتى كبيرة، إلى إطلاق اليد في تحويل الأرباح والأموال إلى الخارج، إلى خلق مناخ أشاع الفساد بدرجة غير مسبوقة حتى في عصر حكم المماليك. إلى إفقار لا مثيل له للطبقات الشعبية خصوصا الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين، وإلى تهميش القاعدة الأوسع من الفئات الوسطى وإفقارها، وإلى حد تعريض الأمن الوطني للخطر.
طالعتنا صحيفة الوفد هذا الأسبوع بأن (عددا من الشركات الكبرى وبعض رجال الأعمال المعروفين والشخصيات العامة) قد أحيلوا إلى النيابة بتهمة التهرب الضريبي وأوردت أسماءهم حصرا. غير أن صورة البرجوازية المصرية لا تتمثل فحسب في النهب والإثراء والتهرب من دفع الضرائب بل هناك ما هو أنكى وأكثر فجورا.
فقد نشرت جريدة الأهرام أنه منذ يناير 2006 حتى نهاية أبريل 2007 تم ضبط 202 قضية غش وتزييف وتوزيع أدوية مجهولة المصدر أو «مضروبة». كما تم ضبط أكبر مصنع لغش الأدوية في الشرق الأوسط وهو يشغل طابقا كاملا بمساحة أكثر من 1000م2 في عمارة كبيرة بأحد ضواحي مدينة الجيزة.
ولايقتصر التزييف على التصنيع المحلي، ولكن المستوردين أيضا يحصلون علي نصيبهم حيث يقال أن نسبة من الأدوية المغلفة تأتي من الهند والصين مرورا بمحطات عديدة للتغليف والتوزيع. وساعد على ذلك ليس مجرد ضعف الرقابة أو انعدامها، ولكن السماح بانتشار مخازن الأدوية التي تصل إلى 730 مخزنا وهذه المخازن هي المختصة بالتوزيع. وكان قد سبق تأميم مخازن الأدوية التي كانت تستورد وتوزع الدواء في عام 1960. إلى أن جاء هذا العهد الكئيب الذي أتاح لكل اللصوص والأفاقين التحكم في كل شيء، بما في ذلك دواء الشعب.
والغريب أن وزير الصحة قد وافق منذ فترة وجيزة علي رفع أسعار قائمة كبيرة من الأدوية اللازمة لعلاج أمراض شائعة ومنتشرة. وقبل ذلك بسنوات تم السماح للقطاع الخاص بإقامة مصانع أدوية توازي أسعار منتجاتها أضعاف أسعار الأدوية المثيلة من إنتاج شركات الأدوية التابعة للقطاع العام والتي يجري التضييق عليها وبيعها.
هاتين الواقعتين، واقعة التهرب الضريبي من عدد كبير من الرأسماليين، وواقعة غش وتزييف الدواء (تصنيعا واستيرادا)، إنما تبين الحالة المزرية التي تعيشها البلاد وتفرض مقارنة بين عصرين سابقين وعصر راهن. مقارنة بين عصر حاولت فيه عناصر وطنية من البرجوازية المحلية (طلعت حرب) أن تبني نهضة اقتصادية ولكنها لم تتمكن من استكمال مشروعها. وعصر آخر (ثورة يوليو) التي قطعت شوطا كبيرا لبناء نهضة شاملة (أيا كان تقييمنا لها) ولم يتم السماح خارجيا وداخليا بأن تستكمل مشروعها. وعصر راهن يتم فيه قتل الناس مع سبق الإصرار والترصد بأشكال مختلفة من أجل الإثراء على حساب الشعب وعلى حساب الوطن.
وبالرغم من أن النخبة المعارضة خاصة اليسارية في مصر قد تكيفت مع هذه الرأسمالية، ولا ترى ولا يمتد طموحها إلى أكثر من المطالبة بالإصلاح، علماً بأن الأمر قد تجاوز نهائيا أي إمكانية لهذا الإصلاح المزعوم، ومع الإشادة بكل المحاولات المبذولة لضبط قضايا التهرب والفساد والتزييف، غير أن نظاما اجتماعيا اقتصاديا بهذا الشكل لم يعد بالإمكان القيام بملاحقات مجدية للفساد والنهب والتخريب الجارية فيه. لأن جوهر ما يتم من سياسات تكتسب مشروعية قانونية ودستورية أضفت على الاستغلال والنهب وتجويع الشعب حماية، وخلقت مناخا أصبح فيه التهرب من دفع الضرائب أو الغش أو تهريب الأموال والبضائع الفاسدة أو غسل الأموال أو اختلاس المال العام كلها جزء من آلية هائلة هي النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي القائم .
وإذا كانت معارضة النخبة شكلية وزائفة، فإن تحركات الطبقة العاملة في البلاد تنمو باضطراد، لقد امتدت إلى صناعة الأسمنت في أكبر وأعرق مصانعه (القومية للأسمنت في حلوان) كما امتدت الاعتصامات والاحتجاجات إلى عمال وسائقي النقل العام، وإلى سائقي وعمال مترو الأنفاق.
رغم أن اليسار الإصلاحي وبعض التافهين من منظري البرجوازية يحاولون إنقاذها بالهجوم على الفساد والمطالبة بالإصلاح والتعويل على ما يسمونه الرأسمالية الوطنية المزعومة. إلا أن الرؤية العلمية للشيوعيين عن الدور التاريخي والعالمي للطبقة العاملة يثبت سلامته. وهنا ينبغي على الثوريين الحقيقيين النضال بدأب من أجل تحويل النضال الاقتصادي للطبقة العاملة إلى نضال سياسي شامل، بالتوازي مع تحالف عميق الجذور مع القوة الوطنية المدركة لحجم الخطر الذي يواجه الوطن والمتمسكة بسلامة الكيان الوطني.