قمة العهر
تجل آخر لقمة العهر السياسي والأخلاقي الذي وصلت إليه الأنظمة العربية، جاء من طرابلس الغرب هذه المرة، التي قايض المتربع على عرش «خيمها الرئاسية» هناك، دماء أطفال بلاده وحياتهم، بحفنة من الدولارات، ووعود المعالجة في الخارج، والشراكة مع أوربا، وإلغاء الديون، وأوجه الدعم الفرنسي النووي للأغراض السلمية و.. تستطيل القائمة، لتبقى على حساب امتهان كرامة المواطن العربي واحتقار قيمة حياته منذ نعومة أظفاره، من خلال التعامل الإجرامي معه كفأر تجارب يمكن أن يحقن عمداً بفيروس الأيدز، قاضياً على مستقبله ومستقبل عائلته، ثم ببساطة شبه شديدة يجري إطلاق سراح المجرمين بصفقة ما، ليجري استقبالهم في بلادهم استقبال الأبطال، ويطلق سراحهم فوراً من أرض المطار، بعد «إخضاعهم لفحص طبي ونفسي اطمئناناً عليهم بعد محنتهم في السجون والمحاكم الليبية».
«طوبى» للقذافي، الذي يعد بطل المزايدات على القمم العربية، والشيم العربية، والقضية الفلسطينية، والعراقية، واللبنانية، والجولانية، والدارفورية، وعلى الفضاء الأفريقي، وقبلها على النظريات الفلسفية والاقتصادية والسياسية، والكتب بألوانها كافة باستثناء «الأخضر»، والذي أصبح في حلته الجديدة، بطلاً في المزايدة على مستقبل أجيال بلاده، مقدماً النجاحات الدبلوماسية لساركوزي وزوجته، وهو الذي أسكره من حيث لا يدري قدح فودكا روسي بعد أيام قليلة فقط من وصوله سدة الإليزيه.
العالم يتحدث عن انتهاء ما بات يسميه «أزمة» الايدز، وكأن القصة اختراع فيزياء، أو أزمة طحين أو مياه، أو عوز، أو فاقة ما.
إن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، هم بكل الأعراف والديانات والقوانين مجرمون قذرون يستحقون العقاب الشديد، ولكن الأقذر منهم هو من يدعي «العفو عند المقدرة» و«يتسامح» لقاء وعود لن ينفذ معظمها مطلقوها لأسباب وذرائع ستتبين لاحقاً وتباعاً، ليس اٌقلها مثلاً تحدث المتهمين المفرج عنهم عن صنوف العذابات و«انتهاكات حقوق الإنسان» التي تعرضوا لها في ليبيا. ويشاركه في القذارة، تلك العقلية الغربية التي تستقبل هؤلاء القتلة كالأبطال، محاولين تكريس الانهزام المعنوي أمام التفوق الغربي لدى شارع عربي يتوق للكرامة والتحرر. وما بين الطرفين يشترك في الجرم حتى عائلات الضحايا، المغلوب على أمرهم أمام سطوة «السلطان الفاتح الأيلولي العربي الاشتراكي الديمقراطي الجماهيري الليبي المعظم».
أما الحرقة في قلوب هؤلاء، فهي ثلاثة أو أربعة أو عشرة، فهم الذين فقدوا أطفالهم على حين غدر، قبلوا بالتعويضات، فاجأهم عفو بلغاريا عن رعاياها المجرمين «المحررين»، فعادوا في حركة لحفظ ماء الوجه للمطالبة مجدداً عبر الانتربول بإعادة «اعتقال الممرضات والطبيب البلغار, وقطع العلاقات مع صوفيا وطرد رعاياها احتجاجاً». وربما كان الأجدى بهم أن يتفاجأوا بعفو ولي أمرهم القذافي ونظامه القضائي ومؤسسة ابنه ووزارة خارجيته...
مئات الأطفال الليبيين قضوا بجريمة موصوفة، جرى ويجري «الصفح» عنها، مقابل مكاسب سلطوية للقذافي ونظامه لا أكثر ولا أقل، ولن يكون بمقدوره التذرع بأن ما جرى قد جرى، وأنه ساوم وانجز الصفقة وقبض الثمن لصالح أبناء شعبه، فما فائدة المساعدات والشراكات إذا كان أصحاب المستقبل المفترضين للاستفادة منها مذبوحين ويجري التفاوض على دمائهم؟
إنها قمة العهر يا قذافي!!