هل من متوهمين بعد؟

أسقط ديمقراطيو الكونغرس الأمريكي آخر أقنعة اختلافهم المفترض، والذي طالما روجوا له، مع جمهوريي إدارتهم، وكشفوا أن أنيابهم لا تقل طولاً وفتكاً عن خصومهم السياسيين في الداخل الأمريكي، وصوتوا معاً لصالح خطة «تعوض عن فشلهم في فرض سحب القوات، وتعد البديل الوحيد عن الفوضى في العراق في ضوء صعوبة تطبيق هذا السحب حالياً»، حسبما جاء في ترويجهم للخطة التي تتمثل ببساطة، وبكل ديمقراطية بـ: تقسيم العراق!

وإن كانت هذه الخطوة من جانب الديمقراطيين غير مفاجئة إلا لمن يتوهم وجود تباين جوهري، يستقوي بالرهان عليه بفقدانه المبادرة وتعوده الاتكال، بينهم والجمهوريين، إلا أن توقيتها وملابساتها هي مكمن الخطورة فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن واشنطن كانت تضع تقسيم العراق (والمنطقة) نصب عينيها منذ ما قبل قيامها بغزوه (كولن باول 2002، «ضرورة إعادة رسم خارطة المنطقة»).
هذا الطرح «الديمقراطي» الجديد داخل الكونغرس الأمريكي لا يشكل تجاوزاً أمريكياً جديداً لسلطة التشريع الأمريكي فحسب(Extraterritorial Legislation) ، بل إنه وبطريقة طرحه، ضمن سباق التتابع بين الجمهوريين والديمقراطيين وتكامل الأدوار بينهما حسب توزيعها من المركز الاحتكاري- الصهيوني، يبتغي الانتقال خطوة جدية جديدة بالتحضير النفسي لهذا التقسيم بعدما مهد له بسلسلة إجراءات فرضتها سلطات الاحتلال في العراق أبرزها: تسليح العشائر العراقية في الأنبار وديالى بذريعة مكافحة القاعدة، وقبلها الضغط لتمرير قانون محاصصة النفط والغاز العراقي بين الدويلات العراقية المطلوب تشكيلها على أن تبقى الشركات الاحتكارية الأمريكية صاحبة الحصة الأكبر قانوناً، وقبلها تمرير الدستور العراقي الجديد، وجميع هذه الإجراءات تستخدم صراحة مفردات عرقية وطائفية في الدلالة على العراق والشعب العراقي، نسفاً لبنيته السابقة.
وإذا كان تحقيق تقسيم العراق، بعد أن ينحر أبناؤه بعضهم بعضاً بتحريض المحتل وأعوانه ورعايتهم، يشكل متنفساً لقوات الاحتلال من الخسائر المتلاحقة التي تتكبدها على يد المقاومة الوطنية العراقية التي تستهدفها دون المدنيين العراقيين الأبرياء، فإنه بطبيعة الحال يشكل سيناريو لا يخرج عن الرؤية الأمريكية للمنطقة وتطوراتها، ولما يمكن لإدارة بوش أن تنجزه فيها ضمن الآجال الزمنية المتبقية لها في سدة البيت الأبيض، قبل أن تسلم الراية لمن سيخلفها هناك.
ففيما يتعلق بفلسطين المحتلة تواصل إدارة بوش الترويج لاجتماع الخريف، المخصص حصرياً لبحث «السلام» على المسار الإسرائيلي-الفلسطيني، ولكن ضمن شروط «الأمر الواقع» الأمريكي-الإسرائيلي والتي ينبغي على الأطراف المدعوة للاجتماع والمشارِكة فيه الموافقة عليها، ومنها قبول تقسيم جديد للأراضي المحتلة، حتى قبل وجود دولة فلسطينية، وذلك باستخدام مصطلحات حقوقية تجد مرجعياتها في القانون الدولي من شاكلة إعلان قطاع غزة «كياناً معادياً»، قبول كل نتائج «الاتصالات السياسية» القائمة بين الاحتلال الإسرائيلي وسلطة عباس وإيجاد غطاء دولي لها، الإعلان الأمريكي المسبق أن الدول التي ستدعى للقاء المزمع هي «من تقبل بالأسس الدولية وخارطة الطريق»، أي أن الأطراف الإقٌليمية المدعوة للمشاركة مطلوب منها أن تقدم «ورقة حسن سلوك» من خلال الموافقة سلفاً على ما هو مطروح بما فيه شطب شرائح كاملة من الفلسطينيين الموجودين في كامل قطاع غزة، وبالتالي يصبح مفهوماً تصريح أولمرت الصريح بأن «الاتفاق النهائي مع الفلسطينيين يتطلب بين 20-30 عاماً».
وفيما يتعلق بلبنان الذي تم تأجيل انفجار الاستعصاء السياسي فيه، على خلفية الاستحقاق الرئاسي، الذي لا تبدو في الأفق ملامح حلول توافقية له في ضوء استئناف مسلسل الاغتيالات المدروسة من جهة، وتمسك طرفي الصراع بموقفهما تمثيلاً لمشروعين متناقضين أحدهما أمريكي والثاني مضاد، من جهة أخرى، ومع إدراك واشنطن أنها وأتباعها هناك لا يستطيعون فرض مشيئتهم دون خسائر أو دون الاضطرار لتفجير حرب أهلية تستدعي التدخل العسكري الخارجي، فإنها تعمل على كسب الوقت وحشد المزيد من الضغط السياسي على قوى المعارضة، وأيضاً بغطاء إقليمي-دولي، حيث يندرج الاجتماع المصري، الأردني، السعودي، بوجود عمرو موسى، وبدعوة من وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ضمن هذا السياق.
وبينما يزداد ارتسام كل من إيران وسورية بوضوح على دريئة الاستهداف العدواني الأمريكي الإسرائيلي بذرائع مختلفة وتوقيتات قد تتباين بحكم المعطيات الميدانية وتقدير حجم الخسائر والمنعكسات الإقليمية والدولية، فإن اللافت في الرؤية الأمريكية، والدولية تحت النفوذ الأمريكي، للمنطقة هو أن البيت الأبيض ذاته لا يصدق هذا التحول الفرنسي، بقيادة نيكولا ساركوزي باتجاه السياسة الخارجية الأمريكية، والذي باتت برلين تحاول اللحاق به: من الملف الإيراني، إلى العراق، إلى لبنان وسورية، إلى رفض حماس ودعم عباس!
وإذا كان السؤال المطروح حالياً هو حول ما إذا كان التقارب الفرنسي-الأمريكي «سيتكلل» بعمل عسكري ضد طهران، فإن الواضح في كل الأحوال هو أن «ساركو الأمريكي» يتحول نموذجاً للمحافظين الجدد في أوربا.
لكن في المقابل ومع دخول الأزمة الأمريكية طوراً جديداً في شقها الاقتصادي الدولاري النفطي، فإن انفجار هذه الأزمة، وانعكاساتها الخطيرة على بنية الدولة والمجتمع الأمريكيين، سيجد ارتدادات له داخل الدوائر الرأسمالية التابعة أو المضاهية، سواء في أوربا أو بقية أرجاء العالم، وهو احتمال يدركه ويتوجس منه الديمقراطيون، الذين لن يظهروا فعلياً أي اختلاف مع الجمهوريين، بل ربما يدفعهم لأن يكونوا أكثر إجراماً من خصومهم السياسيين في الداخل الأمريكي.
ولا يفوت التذكير هنا بأن هذه القراءة لا تدعو للتمسك بالحالة الانتظارية لسقوط الإمبراطورية الأمريكية من تلقاء ذاتها وتحت وطأة تناقضاتها وأزماتها البنيوية، بل تدعو للعمل الجدي باتجاه تحقيق هذا السقوط وتسريعه دون السماح لواشنطن بإطالة عمر سياستها العدوانية إنقاذاً لنظامها المتهالك. ويقف في مقدمة هذا العمل الجدي تبني خيار المقاومة وتوفير كل مقوماته.