في الذكرى السابعة لانطلاقتها: ماذا تبقى من وهج الانتفاضة؟

اجتاز الفلسطينيون عاماً جديداً من عمر انتفاضتهم المجيدة، انتفاضة الأقصى، والتي أضاف لها البعض منهم كلمة الإستقلال، لتصبح انتفاضة الأقصى والاستقلال. فهل تحققت عروبة الأقصى، وهل اقتربنا من الاستقلال؟ أم أننا مازلنا نتعثر في «رحلة الألف ميل» الذي بدأت خطواتنا الأولى على طريقه منذ عقود عدة. لقد اندفع الشعب الفلسطيني في مقاومته المتجددة يوم 29/9/2000 للتأكيد على رفضه كل محاولات تهميشه و«الإنابة عنه» في رسم مستقبله، كرد على قمة «كامب ديفيد»، وكتحرك مباشر في مواجهة أعدائه، في «انتفاضة ثانية» داخل أراضيه المحتلة ليواجه بالحجر أولاً، وبالرصاص والاستشهاديين ثانياً، الحملات العسكرية الوحشية الصهيونية التي استهدفت سحق معنوياته قبل سحق عظامه وبيوته، وكان بهذا الحراك المقاوم، سلماً وعنفاً، يسعى لإضافة بعض الانتصارات على طريق التحرر والاستقلال. وقَدَّمَ الفلسطينيون في تحركهم الجديد، خمسة آلاف شهيد، وفي المقدمة منهم: أحمد ياسين، أبو علي مصطفى، ياسر عرفات، عبد العزيز الرنتيسي، والمئات من الصفوف الأولى والثانية، الناشطة ميدانياً، من حركة الجهاد الاسلامي وغيرها من منظمات المقاومة. كما أضيف لهذا الرقم حوالي اثنان وثلاثون ألف جريح، يعاني أكثر من ألف وأربعمائة منهم إعاقات دائمة، كما تعرض أكثر من ستين ألف مواطن، وقرابة سبعمائة مواطنة، وأكثر من ستة آلاف طفل للاعتقال، استشهد منهم داخل زنازين التعذيب والعزل، ثمان وستون أسيراً. وللآن مازال حوالي اثنا عشر ألفاً من المعتقلين الأبطال يعانون خلف قضبان السجن. هذا الوضع ارتبط بتفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الناتجة عن الانهيار الاقتصادي الذي سببته سنوات طويلة من الحصار والتدمير لمراكز الانتاج، والتجريف المنهجي للأراضي الزراعية، واقتلاع الأشجار المثمرة.

أمام هذه التضحيات العظيمة، تضاءلت الإنجازات، بل جاءت بعض الاستنتاجات، لتقول أن الخط البياني لصعود الانتفاضة، والذي بدأ متصاعداً في سنواتها الثلاث الأولى، وترنح متعرجاً في السنتين اللاحقتين، ليبدأ مع دخولها العام السادس في انحدار بطيء ولكنه ملحوظ، ليصل مع ولوجها العام السابع إلى منعطف الانحدار السريع.
إن المأزق الذي عانت وتعاني منه حركة الانتفاضة الثانية، ماهو إلاّ الانعكاس المباشر والحاد، للأزمة الراهنة التي يعيشها المشروع الوطني التحرري الفلسطيني تحديداً، والعربي عموماً. إن مركز الأزمة يتوضح في غياب البرنامج الوطني الموحد، المقاوم ميدانياً، وسياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً. وبالتوازي مع ذلك، وكنتيجة له، وكتعبير عنه، غياب القيادة الوطنية الموحدة، كناظم وحيد لأدوات عمل المشروع، وكهيئة أركان تشرف على حركة قواه الميدانية. ولهذا غابت النضالات الجذرية في أكثر من ميدان، وتراجعت أهداف النضالات السياسية، كمواجهة انتشار المستعمرات، وتمدد جدار الفصل والضم العنصري -الذي تقاعسنا عن الاستفادة من قرار المحكمة الدولية في لاهاي بعدم شرعيته- وتهويد أجزاء كبيرة من الأغوار، ناهيك عن تراجع الاهتمام بعملية تهويد القدس وعزلها عن الضفة. لقد تراجعت أهداف النضال الفلسطيني السياسية/الكفاحية، لتتقزم وتُختزل، في بضعة مناشدات انسانية، حول المعابر والأسرى والمطاردين، وبالبحث عن وسطاء اقليميين ودوليين، لاقناع حكومة العدو بالتكرم علينا للجلوس إلى طاولة المفاوضات، والدخول في متاهات اللغو والثرثرة، التي يتقنها أفراد الطواقم، وقائدهم «أولمرت» في لعبة التسويف الزمني.

مقابل هذا التعثر والارباك الفلسطيني، كان الاندفاع بالمشروع الصهيوني/التهويدي الاجلائي يتابع تقدمه على الأرض، مستفيداً من، ومستنداً إلى وقائع جديدة، اقليمية ودولية، وفرت لهذا المشروع ديناميكية متجددة، تحت مظلة امبريالية، لم تستفد منها حكومة الاحتلال فقط، بل واستظلت بها عدة حكومات عربية أيضاً، لتتضافر جهود الجميع من خلالها، لتنثر للطرف الفلسطيني الرسمي المزيد من الأوهام والألغام، على طريق الاذعان والتفريط. ومما زاد الطين بلة في تسارع الانحدار البياني لخط الانتفاضة نحو المجهول لفظاً، والمدمر حقيقة، قرارات شرعنة خطة «دايتون» على الأرض، والهرولة المتسارعة نحو تقديم المزيد من التنازلات، رغم الجهود العربية والمحلية، التي وفرت لأنصار الخطة، المظلة السياسية الواهية التي عَبَّرَ عنها «اتفاق مكة» الذي لم يكن سوى رتق هش للشروخات الواسعة في الجسم السياسي. ولأن عوامل الاستمرار لم تتوفر لهذا الاتفاق لارتكازه على المحاصصة الثنائية، ولهروبه من معالجة جذور الانهيار السياسي-الاجتماعي-الأمني، فقد انفجر الاحتقان الداخلي «الثنائي» في منتصف حزيران الفائت، باروداً ودماءً ومراسيماً و...! ليعلن عن وصول الانتفاضة الثانية لغرفة العناية المشددة، التي دلت كل المؤشرات على «موتها السريري»، من حيث كونها – الانتفاضة- الجهد الكفاحي الجمعي والمجتمعي الموحد. فالحكومتان -بغض النظر عن مناقشة «شرعية» كل واحدة منهما- الفاقدتان للسيادة، والكيانان اللذان يصدر عن كل منهما، قرارات وقوانين ومراسيم، سَرَّعَتا الانحدار نحو الكارثة، بالرغم من استمرار الفعل المقاوم المنطلق من قطاع غزة، والتضييق والملاحقة على نشاط المقاومين في الضفة الفلسطينية، الذي يعكس، وبما لايقبل الالتباس والتأويل، رؤية كل فريق سياسي منهما لطبيعة العدو وأساليب النضال ضده.

إن الحفاظ على ديمومة النضال الوطني، سواء بإعادة الحياة للانتفاضة الراهنة، أو الاستعداد لمتطلبات المواجهة القادمة، بالتحضير لانتفاضة ثالثة كما يطرح البعض، يتطلب أولاً وقبل كل شيء، انهاء حالة الانقسام التي لم تتوقف عند حدود «الحكومتين» و«الرأسين» بقدر ما أصابت وحدة المجتمع. ولهذا فإن لجم كل المحاولات المشبوهة التي تراهن على تعميق الشرخ المجتمعي، تتطلب تطوير أشكال العمل الوطني الجماعي بغرض تثبيته، كنهج دائم في النضال الوطني، وليس كأدوات استقواء موسمية، تتطلبها «المعارك» بين أبناء الشعب. إن أية صيغة مقترحة للتواصل الوطني، السياسي/المجتمعي، داخل فلسطين التاريخية وخارجها، تتطلب اتفاقاً وطنيا عاماً، بعيداً عن هيمنة المحاصصة الفصائلية، يفتح الباب على أوسع مشاركة شعبية فاعلة، حاضراً ومستقبلاً، من أجل بحث أسباب ومقدمات الأزمة الراهنة، وصياغة خطة العمل الوطنية/الجماعية_أو بأكبر قدر من التحالف الواسع- للخروج منها، لمجابهة مؤامرات العدو الامبريالي/الصهيوني، والتوصل المشترك لقناعة جماعية بأهمية احياء وتفعيل مؤسسات العمل المعطلة، أو تشكيل مرجعية وطنية تعمل وبمسؤولية عالية، من أجل وضع الأسس للإنطلاق بحوار وطني، يغوص في قلب المشكلات/الأزمات التي رافقت مسيرة النضال الوطني، بهدف الخروج من الكارثة المحيقة بالجميع، كخطوة ضرورية على طريق الاستعداد لمهمات المرحلة القادمة. فهل تحمل لنا الأسابيع القادمة مؤشرات إيجابية، تساعد أبناء شعبنا على الخروج من حالة الانكفاء والانتقال من مقاعد المتفرجين إلى المشاركة في اعداد وتنفيذ خطة العمل التي تحمي نضالاتهم وتصون وحدة مجتمعهم؟