الاتحاد الأوروبي ونهاية الدور الوظيفي

الاتحاد الأوروبي ونهاية الدور الوظيفي

يعرَّف كل تكتل واتحاد ضمن المنظومة العالمية الرأسمالية على مستوى مراكز المنظومة بأنه اتحاد شركات وملاك وبنوك هذه الدول، لتشكيل كيان عابر للقوميات، يهدف بهذا الشكل أو ذاك، إلى تحطيم الحدود وإنشاء منظومات مالية واقتصادية تهدف لتحقيق الأرباح وتقسيمها وإعادة توزيعها وإدارة التجارة العالمية مع المراكز الأخرى أو الأطراف.

 

الاتحاد الأوروبي الذي ينطبق عليه التعريف السابق لا يخرج عن كونه اتحاد شركات وبنوك أوروبا، بناءً على رسمة وتوجيه صندوق النقد الدولي، أو تنفيذاً لما اتفق علية في مؤتمر «بريتون وودز»، أو بعدها ضمن اتفاق «جمايكا» الذي رسخ المنظومة المالية العالمية ومفهوم الدولار كعملة تبادل عالمي.

في عام 1952 تم تشكيل نواة لوحدة أوروبية سميت في ذلك الحين «تجمع الحديد والفحم» ومن ثم وقعت اتفاقية روما بين ست دول هي: فرنسا، وألمانيا، ولوكسمبمورغ، وهولندا، وإيطاليا، وبلجيكا. 

ما بين اتحاد ديغول

 واتحاد ميركل

قررت الاتفاقية المذكورة آنفاً تعليق الجمارك بين دولها، بهدف تكوين كيانات أكثر اتحاداً بمواجهة الدولار الأمريكي ومشروع «مارشال» الذي رسخ الدولار عملة فوق العملات المحلية في أوربا، لأن تسديد الدين الناجم عن المشروع كان لا بد أن يكون بالدولار الأمريكي. 

في ذلك الحين، رُفض طلب بريطانيا بالمشاركة في الاتحاد الأوروبي، وقال ديغول جملته الشهيرة: إن بريطانيا تملك «كراهية متجذرة» للكيانات الأوروبية. وحذّر من أن فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدي إلى تحطيمه. لذلك، رفض طلب بريطانيا للانضمام للمعاهدة، وسعى الأوروبيون لبناء منظومة للتحرر عملياً من هيمنة الدولار الأمريكي على اقتصاداتهم.

لكن بعد انتهاء الفترة الديغولية في عام 1966، نشأ وضع عالمي جديد متغير مدفوعاً من الهزيمة الأوروبية أمام الدولار الأمريكي الذي أغرقت به أوروبا ضمن مشروع «مارشال» بخديعة التغطية الذهبية التي اكتشف ديغول وقتها أنها أوراق مطبوعة دون تغطية مالية، لكن الوقت فات على «أنصار الاستقلال الأوروبي». 

وعدت أوروبا- التي وافقت أخيراً على قبول عضوية بريطانيا في الاتحاد- دول السوق الأوروبية المشتركة بالرفاه، لكنها وافقت صاغرة على إملاءات صندوق النقد الدولي، واعترفت بمؤتمر جمايكا الذي جعل الدولار عملة عالمية لا تحتاج للتغطية بالذهب وغير قابلة للتبديل. 

في عام 1973، أي في فترة ارتفاع النفط وتحول الدولار إلى بترودولار، انضمت بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، فارضة شروط صندوق النقد الدولي على هذه الدول التي يمكن تلخيصها بنقاط عدة، أولاً: إلغاء الحدود على تنقل رؤوس الأموال. ثانياً: الخصخصة وإلغاء دور الدولة. ثالثاً: إلغاء دور ورقابة الدولة على سوق العملات الأجنبية. وهذا تماماً ما تم فعله بالاتحاد السوفيتي لحظة انهياره في العام 1990، لكن على المستوى الأوروبي كانت الصدمة أقل رغم أنها جعلت السيطرة الأمريكية على أوروبا محكمة.

ما بعد 1999 ونشوء اليورو

ظهرت فكرة إنشاء عملة أوروبية موحدة منذ فترة سبقت ظهور اليورو بكثير، على غرار «روبل المعادلة» أو «التحويل» في الاتحاد السوفيتي، لتوحيد عملية التبادل الأوروبية مع العالم الخارجي، كما ادعت فرنسا وألمانيا. لكن عملياً كان الهدف ممارسة دور الدولار ذاته على الدول التي ستنضم لاحقاً إلى المنظومة الأوروبية المشتركة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من جانب، ومن جانب آخر، نشأ النظام الأوروبي المالي والنقدي شبة المستقل نتيجة قرب انهيار الدولار بعد ارتفاع عجز الولايات المتحدة الأمريكية، وبسبب سياسية التيسير الكمي الأمريكية التي ضاعفت على أساس قاعدة الاحتياطي الجزئي حجم الدولارات في السوق العالمية، فأدى ذلك إلى انخفاض قيمة الدولار، وتسارع إمكانية انهياره.

لذا سارعت الكانتونات الأوروبية الاحتكارية لإنشاء نظام مالي اعتقاداً منها بإمكانية أن يكون بديلاً عن الدولار الأمريكي على مستوى العالم. وقامت أيضاً بتوسيع الاتحاد، وضم دول جديدة له من الدول التي كانت في المعسكر الاشتراكي، وأيضاً بعض دول جنوب أوربا ودول البلطيق التي كان محرماً عليها الدخول في الاتحاد، ليبدأ البنك الأوروبي باستعمال سياسة التوسع المالي وإغراق الدول بالديون، بعد أن فرض عليها شروط معاهدة «ماسترخت» التي تجبر الدول الأعضاء الجديدة على التزام معدلات عجز منخفضة، وخصخصة قطاعات الدولة، في شروط تشبه شروط صندوق النقد الدولي.

لكن الريح كانت قد جرت بعكس ما تشتهي السفن، فقد أدت الإملاءات الأوروبية الداخلية إلى حصول العكس تماماً، فلم يقم الشكل الجديد للاتحاد بإنتاج الرخاء، بل على العكس أنتج التقشف في دول جنوب أوروبا، وتمركزت الثروة في يد الشركات والبنوك (خاصة الألمانية) وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي، وزادت البطالة ومؤشرات الإرهاب، وتدنت التنمية، وأصبحت أوروبا مهزومة مرة أخرى، بحكم ارتباط اليورو بالدولار الذي يعكف أرباب الاقتصاد على تسميته الأورودولار، حيث أن العملة الجديدة لم تستطع أخذ مكان الدولار في التبادل العالمي، إذ أنها تشكل فقط 13%من حصة التبادل العالمي.

انهيار الدولار.. انهيار المنظومة المالية العالمية

ما يجعل أوروبا، القائمة على ذلك الشكل من اتحاد البنوك والشركات، يعيد انتشاره وتحالفاته، هو ليس كما يشاع عن خلافات أوروبية ضد قوانين الهجرة واللجوء، بل هو خلاف حول التعاطي مع العملة الجديدة، وعلاقة المركز الأوروبي بأطرافه، وعلاقة أوروبا بالمركز الدولاري الأمريكي، لا سيما مع تراجع دور الدولار الذي عبر عنه صاحب مجموعة روتشيلد الذي قرر تخفيض اعتماده على الدولار الذي كان لعائلته الدور الرئيسي مع كيسنجر في إنشائه عبر منظومة جمايكا.

وأيضاً، تبدو واضحة محاولات روسيا والصين لإنتاج نظام مالي عالمي جديد. ولذلك فإن الخلاف حول المنظومة المالية الأوروبية الداخلة طور الانهيار له الدور الرئيسي في التباين بين حكومات القارة. ويبدو أن بريطانيا- أول الهاربين من المركب الغارق- وتخطط مع الولايات المتحدة لإنشاء كيان مالي وعلاقة جديدة مشتركة، بعيداً عن الأزمات الأوروبية، وكأنها هي وواشنطن ذاتهما بعيدتين عن صلب الأزمة الرأسمالية!!

«التحالف الأوروبي المناهض للتقشف».. بقيادة فرنسا

وبرز مؤخراً حديث عن تشكيل تحالف لدول الجنوب الأوربي بقيادة فرنسية..! وربما يعكس ذلك بدء مرحلة جديدة تعكس إمكانية إنشاء كيانات ضمن الكيان الواحد. فالبريطانيون قد قرروا المغادرة نحو تعميق العلاقات مع واشنطن، والفرنسيون يقودون دول مثل البرتغال وإسبانيا واليونان وإيطاليا التي ترفض برنامج التقشف الاوروبي الذي هو في الحقيقة إنتاج ألمانيا وصندوق النقد الدولي معاً.

ألمانيا ومن تبقى.. والخيارات الصعبة

تجاهد ألمانيا لمنع فرط عقد الاتحاد الأوروبي، وهذا أمر بغاية الصعوبة، فالكيان الأوروبي بالنهاية هو حصيلة ميزان قوى عالمي أحادي القطبية، وجدت ألمانيا وبعض الدول الأوروبية مكاناً لها على انقاض الاتحاد السوفيتي، وهذا غير ممكن الاستمرار به. فألمانيا وبنوكها واحتكاراتها قد سيطرت على الثروة الأوروبية، وهي مستمرة بالتحالف المرحلي مع واشنطن بإنجاز خطة ضد روسيا جعلت جزءاً من أوروبا غير مستقر ومتوتر. والخلاف على اتفاقية التبادل الحر عبر الأطلسي التي لا تروق للألمان والأوروبيين قد تعجل في عملية الحسم الألماني بعد أن سبرت البلاد أن النظام المالي العالمي غير محصن وقابل للانهيار، وأن الوضع الأوروبي محكوم بالتغير، فإن أفضل ما يمكن لألمانيا ومن تبقى من حلفائها هو بناء علاقات ثقة مع الروس والصينيين الذين يعدون أنفسهم بذكاء لإنجاز نظام مالي وعالمي جديد.