إبراهيم البدراوي  - خاص قاسيون إبراهيم البدراوي - خاص قاسيون

إضرابات مصر و«الخيار صفر»..

عامان من الغضب المتصاعد (2006 و2007)، ثم حل عام 2008 حيث تصاعد الغضب كمياً وكيفياً، واتخذ صوراً وتجليات شتى، وامتد أفقياً ورأسياً ليشمل إلى جانب العمال فقراء الفلاحين والفئات الوسطى بما فيها القضاة وأساتذة الجامعات، وتشابكت فيه قضايا النضال الاقتصادي والسياسي والوطني والديمقراطي، في ظل معاناة الغالبية الساحقة من الشعب بشكل لا يطاق، وكانت أحداث طوابير الخبز تعبيراً واضحاً عن واقع الحال.

عشرات الإضرابات والاعتصامات والأعمال الاحتجاجية في العامين السابقين حقق معظمها أهدافها، وكانت مواجهة السلطة لها محسوبة وعنفها غير مبالغ فيه.

حينما تم الإعلان عما سمي «قانون مكافحة الإرهاب» ظهر جلياً أنه الخيار الأخير للسلطة وأنها تحت وطأة أزمتها قد أصبحت عاجزة عن المناورة.

ما حدث يوم الغضب المصري (الأحد 6 إبريل) وما تلاه، لا يؤكد فحسب أن التراكم يسير بوتائر سريعة للغاية، ولكنه يؤكد أن الخيار الأخير للسلطة قد بدأ تطبيقه على أرض الواقع بتلك الشراسة الشديدة التي تمت مواجهة التحركات الجماهيرية بها.

النتائج المباشرة

لا شك أن هذا الحدث كبير في شكله ومضمونه. في عجالة يمكن استخلاص ما يلي:

ثبت مدى حالة الرعب التي تعيشها الطبقة الحاكمة وسلطتها والذي ظهر جلياً في الحشود الهائلة غير المسبوقة لقوات الشرطة.

موقف قيادة اتحاد العمال ضد الإضراب يمثل في الواقع «طلاقاً بائناً» بين الطبقة العاملة وقيادات الاتحاد، وهذا بطبيعة الحال يرتب استحقاقات لابد من تحديدها والتعامل معها.

أنهي الفرز بين القوى السياسية. إذ انفرد كل من حزب التجمع (وهوامشه من الماركسيين السابقين)، وكذلك حزب الوفد بمعارضة الإضراب بحجج واهية.

انكشاف واضح للغاية لطبيعة الإخوان المسلمين (الذين يتجنبون دائماً المشاركة في أية تحركات لها طابع اجتماعي طبقي)، وتنحصر حركتهم دائماً في إطار مطالب تخص الكف عن التضييق عليهم أو مطالب عامة، كما يفضلون العمل وحدهم إلا إذا رغبوا في غطاء سياسي من الآخرين. لقد أعلنوا بوضوح عن عدم مشاركتهم في هذا الإضراب أو في فعالياته كافة.

أثبت هذا الحدث فهماً وتعاطفاً جماهيرياً واسعاً على طول البلاد وعرضها، بصرف النظر عن حجم المشاركة الجماهيرية فيه.

كشف أيضاً عن ضعف العامل الذاتي المتمثل في الطليعة السياسية، أي الجزء السليم المتبقي من النخبة السياسية المصرية، وهي مسألة يجري العمل على تخطيها.

رد فعل السلطة

علمياً يكون رد الفعل متناسباً مع الفعل، وهكذا في السياسة. لكن رد فعل السلطة على الدعوة للإضراب كان حاداً وعنيفاً بشكل مبالغ فيه. إذ لم يقتصر الأمر بطبيعة الحال على مركز التحركات في مدينة المحلة الكبرى. ففي القاهرة والجيزة والإسكندرية وعدد من المحافظات الأخرى التي تم الإعلان عن وقفات تضامنية مع عمال المحلة بها، سواء في بعض الميادين العامة أو الأحياء الشعبية، تحولت هذه المدن والأحياء إلى ثكنات عسكرية بوجود مكثف للشرطة يفوق التصور وبشكل غير مسبوق على الإطلاق، وتم التعرض للمارة بالسؤال عن وجهتهم وتفتيش البعض وحتى اعتقال أعداد كبيرة بما منع حدوث هذه الوقفات. وحوصرت نقابة المحامين التي تمكن البعض من الوصول إليها بأعداد من الشرطة يفوق عدد المتظاهرين بمئات المرات.

وكانت السلطة- وعبر المسؤولين- قد بذلت جهوداً هائلة للضغط على العمال والموظفين وعلى المدارس والجامعات لعدم الاستجابة لنداء الإضراب وأطلقت أبواقها بالوعيد للمشاركين بالويل والثبور وعظائم الأمور. غير أن ذلك لم يمنع الكثيرين من الاستجابة لنداء الإضراب خاصة بالنسبة للطلاب.

لكن تبقى مدينة المحلة- مركز الإضراب- وهي صاحبة الفعل الأعظم، وقد شهدت صدامات مروعة وغير مسبوقة بين حشود الشرطة وبين العمال وحشود هائلة من المواطنين.

بهذا المعنى نستطيع أن نقول بنجاح الإضراب رغم كل الظروف المحيطة، وامتداد تأثيره بشكل واسع.

الأفق

حينما اشتعلت انتفاضة يناير 1977، كان السادات يردد دائماً أن الإضرابات والتحركات السابقة عليها كانت «بروفة» لها، كما أدعى أنها كانت انتفاضة حرامية.

وأعتقد أن الأفق المنظور يشير إلى أن عجلة المقاومة الجماهيرية والتحرك الشعبي الحازم قد دارت ولم يعد من الممكن إيقافها، وليس هناك خارج الأقلية المؤيدة للسلطة من يصدق إدعاءات الإعلام الحكومي بأن من فعل ذلك هم مثيرو الشغب.

إن الأفق القريب للنضال الشعبي يؤكد أن التغيير الذي بات مؤكداً سوف يأخذ ملامح مختلفة عن تلك التي تصورها الكثيرون إلى ما قبل يوم واحد من الإضراب، وكان ذلك التصور ينهض على أن القوى الوحيدة الفاعلة هي الإخوان المسلمون، وأنه لا يمكن فعل شيء دونهم.

ولعل ما حدث بالنسبة لهذا الإضراب وما صاحبه من تحركات قد أحدث تغييراً في هذه التصورات وهو إمكانية التحرك الناجح بغير الإخوان المسلمين الذين حاولوا ستر تخاذلهم بإعلانهم قبل أقل من يوم من الانتخابات المحلية مقاطعتهم لها رغم مشاركتهم بمرشحين فيها. إذ يرى الكثيرون أن ذلك الموقف ضدهم وليس معهم في إطار طبيعة اندفاعهم الدائم لتحقيق مكاسب ذاتية لهم لا ترتبط بمصالح الشعب.

ملمح آخر أثبت فعالية وطالت يد القمع البعض بسببه، وهو استخدام تكنولوجيا الاتصالات في التحريض والتواصل (وهو ما دفع السلطة لتوجيه ضربات لوسائل الاتصال واعتقال البعض ممن استخدموها)، وتلك بطبيعة الحال نقلة نوعية في عمل التحركات الجماهيرية.

لكن يظل الأفق القريب رغم وضوحه، ورغم الثقة التي اكتسبتها قوى التغيير الوطني والقومي والتحرري والتقدمي في قدرتها على الإنجاز، فلايزال هذا الأفق محاطاً بقدر من الضبابية التي ينبغي إزالتها والمتمثلة في العمل لتحقيق ما يلي:

جهد لا يعرف الكلل لجمع شمل قوى الرفض والاحتجاج والتغيير وإنهاء حالة التبعثر تماماً، وفي مقدمة هؤلاء العمال أصحاب المصلحة الأولى في التغيير.

الإسراع بالتوصل إلى صياغة برنامج سياسي شامل وجامع يضمن إندماج هذه القوى كلها مع الطلائع السياسية تحت سقف واحد يلبي طموح الجميع، ونشر هذا البرنامج على أوسع نطاق.

تخليق وتمتين وحدة الموقف والعمل بالنسبة لليسار بمعناه الواسع، أي أقسام القوى الجذرية من الشيوعيين والناصريين، وتجاوز كل الحساسيات السابقة، خصوصاً بعد أن أنتهى الفرز وتحددت الخنادق علناً وعلى رؤوس الأشهاد.

في ظل أزمة الطبقة الحاكمة وسلطتها، وتلاشي خياراتها. لجأت أخيراً لـ«الخيار صفر»، وهو المواجهة العنيفة للشعب. لكنها من حيث لا تدري قد صاغت لقوى التغيير خيارها أيضاً وهو «الخيار صفر».

آخر تعديل على الثلاثاء, 06 أيلول/سبتمبر 2016 13:51