التحرير القاتل
لم نسمع من قبل عن تحريرٍ قاتل. كان التحرير دائماً إحياءً وازدهاراً. ناضلت الشعوب لآلاف السنين من أجل تحرير الأوطان من الغاصبين، والإنسان من الاستغلال. لكن في هذا الزمن الكئيب في بلدنا أصبح التحرير بجوهره ومعناه بدعة ضارة، وتم شحن وتعبئة اللفظ بمدلول وجوهر مخالف تماما لحقيقته.
منذ بضعة أيام أعلنت السيدة مساعد وزير التجارة أن التحرير الأولي لقطاع الخدمات سيبدأ مطلع 2010 من خلال تحرير تدريجي بقطاعات النقل والإنتاج والتوزيع والتخزين. والمفاوضات الجادة للتحرير ستبدأ خلال عام 2008. وذكرت في هذا السياق أن تحرير قطاعي الاتصالات والسياحة اللذين تم تحريرهما نسبياً قد حققا نتائج ايجابية. وأضافت أن مصر قدمت بعض الالتزامات لتحرير عدد من القطاعات مثل التشييد والمقاولات والخدمات المالية بجانب خدمات الكمبيوتر والنقل الجوي فضلا عن مزيد من التحرير في القطاعات التي تم البدء فيها. أي أنهم لن يبقو على شيء، مع العلم بأن أي نجاح يدعونه يتحقق فقط عبر رفع الأسعار.
من تجليات التحرير
بعد أن كفت الحكومة يدها عن التنمية وتخلت عن دورها مفسحة المجال أمام القطاع الخاص، وفتحت كل الأبواب لرأس المال الأجنبي، بكل ما جلبه ذلك من خراب (فقر وبطالة وتفاوت طبقي لا مثيل لهم)، وبكل التداعيات شديدة السلبية على البنية الطبقية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقيمية للمجتمع، ورغم تشكي الحكومة اليومي من قلة الاستثمارات واستجداء رأس المال الأجنبي للقدوم إلى البلاد بتيسيرات وتسهيلات هائلة، إلى جانب النواح والعويل المتصل بسبب خفض المعونة الأمريكية التي دفعنا ولا نزال ثمناً باهظاً لايمكن تخيله بسببها، بعد كل ذلك فان وزيري التجارة والاستثمار يعملان على تشجيع المصريين على الاستثمار في الخارج بحجة أنه عند مستوى معين من تطور المنشأة فإنها تبحث عن التوسع والامتداد في الخارج لأن السوق المحلية لم تعد كافية لاستيعاب طموحها أو تحقيق ما تتطلع إليه من عوائد!! وحسب بيانات البنك المركزي المصري فإن حجم الاستثمارات المصرية في الخارج قد تطور من 30 مليون دولار عام 2002/2003 إلى 7و155 مليون دولار عام 2003/2004 إلى 6و535 مليون دولار عام 2006/2007. ولذلك تعمل حكومة لجنة سياسات ما يسمى بالحزب الحاكم (والوزيرين من أعضاء هذه اللجنة) على أن يكون نزوح رأس المال المصري إلى الخارج عملاً مؤسسياً!! والجدير بالذكر أن الخبراء يقدرون حجم الأموال المهربة للخارج (بشكل غير مؤسسي!!) يقارب 200 مليار دولار. فهل هذه المأسسة لنزوح الأموال مقدمة لإضفاء الشرعية على المليارات الهائلة المسروقة التي خرجت خلسة من الوطن؟ بينما تبتلع أمواج البحر آلاف الشبان الذين يغامرون بحياتهم هرباً من جحيم البطالة وسعيا وراء لقمة العيش.
تحرير أرض الوطن من الشعب
دائما ما يعلن المسؤولون بتفاخر شديد أن بلادنا انتقلت إلى الاقتصاد الحر (اقتصاد السوق) وتخلصت من قيود الاقتصاد الموجه. وهو الاقتصاد الذي يعتبر تسعير السلع والخدمات أحد آلياته، حيث تنهض أجهزة حكومية مختصة بالتسعير، وتعتمد على بعدين متلازمين. البعد الأول اقتصادي يضمن ربحاً معقولاً لكل من المنتج والتاجر، أما البعد الثاني فهو اجتماعي يهدف إلى حماية المستهلك وتحقيق قدر من الرفاهية له. كما كانت تقوم أجهزة حكومية بالرقابة على الالتزام بالأسعار المحددة.
خلال هذا العام ارتفعت أسعار العديد من أصناف الأدوية تباعاً. ومؤخراً ارتفعت أسعار 70 صنفا من الدواء دفعة واحدة. وبينما تقول وزارة الصحة التي قررت زيادة الأسعار أن السبب هو أسعار العملات والمادة الفعالة المستخدمة في صنع هذه الأدوية، فان الصيادلة ونقابتهم يقولون إن وزارة الصحة التي يخضع لها نظام التسعير الجبري (الذي لم يتم إلغاؤه بالنسبة للدواء حتى الآن) قد استبعدت البعد الاجتماعي في تسعير الأدوية وأبقت على البعد الاقتصادي لصالح شركات إنتاج الأدوية خاصة العالمية متعدية الجنسيات، وأن هناك تفاوتاً شديداً في أسعار الأدوية التي تحتوي على نفس المادة الخام. فبينما تنتج شركات قطاع الأعمال العام مضاداً حيوياً يباع للجمهور بمبلغ 4 جنيهات، فإن شركات الاستثمار المحلية (قطاع خاص) تنتج نفس الدواء ويباع للجمهور بمبلغ 9 جنيهات بعد رفع سعره مرتين، لكن الشركات متعدية الجنسيات تبيع نفس الدواء (بنفس المادة الفعالة) للجمهور بمبلغ 18 جنيه.
وقد مررت شخصياً بتجربة في هذا الموضوع بالنسبة لأحد أصناف الدواء حيث فوجئت بأن سعر صنف دواء من إنتاج هذه الشركات الأجنبية يعادل 50 (خمسين) ضعف سعر نفس الدواء المحلي من نفس المواصفات والمكونات والمادة الفعالة!! بيد أنه في عصر التحرير فإن الطلب على هذه الأدوية الأجنبية ليس محكوما بفاعليتها وتأثيرها، ولكنه محكوم بحجم إنفاق هذه الشركات على الدعاية.
وللمفارقة المضحكة فإن المادة الخام التي يدعون أن سعرها العالمي قد ارتفع لا تدخل في نصف أصناف الأدوية التي تم رفع سعرها.
بعبارة قصيرة نقول إنهم يعملون على تحرير أرض الوطن من هذا الشعب وتركه يموت مرضا بلا دواء.
الطريق إلى الجحيم
يقولون إن تحرير الاقتصاد هو بالأساس إلغاء دور الدولة في الحياة الاقتصادية وترك الأمور لقوانين السوق الحرة وحدها. بينما في حالتنا الملموسة فان الحكومة قد تدخلت بيدها وباستخدام سلطتها وسطوتها وبشكل مخادع لتنفيذ رغبات الرأسماليين في رفع الأسعار دون أية ضوابط وضد مصلحة الشعب، بل وإضفاء مشروعية على رغبات وسلوك الرأسماليين. وهو الذي يؤكد رأي الشيوعيين حول دولة الطبقة الرأسمالية ودورها المباشر وتدخلها بكل قوة في كل مناحي الحياة من الاقتصاد حتى الثقافة والإبداع.
في سيرهم على هذا الطريق أدخلوا تعديلات خطيرة على تركيب الحكومة، تعكس توجهاتهم. فقاموا بإلغاء وزارة التخطيط وكذا وزارة الصناعة التي ألحقوها بوزارة التجارة، ووزارة التموين ألغيت وأقيمت على أشلائها وزارة تسمى التضامن الاجتماعي. وبدأت هذه التعديلات الجوهرية تؤتي ثمارها المرة.
إن الاندفاع فيما يسمى التحرير، وخصوصا في مجال الخدمات سوف يضع البلاد على شفا الهاوية، وهو ما سيعجل بانفجار لامثيل له. إنهم يسوقون البلاد إلى الجحيم.