الأفق يتضح!
الأرقام في مصر مشكلة. وهى مشكلة متعمدة، ولذلك فإننا لانثق بها، لأن أرقام الموضوع الواحد تتباين من جهة لأخرى ومن مسؤول لأخر.
لا يمر يوم إلا وتصريحات وبيانات مشفوعة بالأرقام من كبار المسؤولين حامله تحسناً هائلا ًفي النمو الاقتصادي وانخفاض معدلات التضخم وتراجع المديونية الداخلية والخارجية، وانخفاض أعباء خدمة الدين، وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات، وزيادة الاحتياطي النقدي الخ. مثلما صدر في التقرير الأخير للبنك المركزي المصري عن الفترة حتى نهاية سبتمبر الماضي.
ولا أدرى طالما أن الواقع الاقتصادي يتحسن في البلاد بهذه الطفرات فلماذا تحولت حياة غالبية الناس إلى جحيم نتيجة الغلاء الفاحش والدائم في أسعار الاحتياجات الأساسية؟ ولماذا تم طرح موضوع الدعم سواء أكان إلغاءً أو تقليصاً؟ ولماذا تتزايد الهجرة غير الشرعية، بما فيها الهروب للكيان الصهيوني؟ ولماذا تتزايد البطالة بين الخريجين الجدد وبين من وصلوا إلى سن العمل مضافاً إليهم المحالون للتقاعد المبكر؟
لقد أصبحت إضرابات عمال المصانع زاداً يومياً لاتخلو منه صحيفة، نتيجة تطور كيفي في أساليب الصراع الطبقي (الذي يستحيل تمويهه) والذي أصبح يدور تحت سقف المصنع مباشرة، وهو ما أدى إلى نجاحات في بعض المواقع، أبرزها عزل رئيس وأعضاء مجلس إدارة شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى. إلا أن المشاكل أكثر تعقيداً من حلول مؤقتة بالاستجابة لبعض المطالب دون أي أمل في عدول البرجوازية عن نهجها لأن تلك هي طبيعتها المتوحشة. ذلك أن جماعة كبار رجال الأعمال وتعبيرهم السياسي، ما يسمى «لجنة السياسات» التي تشكل القيادة المتربعة وصاحبة القرار داخل المدعو بالحزب الحاكم قد استكملت هيمنتها على السلطتين التنفيذية والتشريعية حتى بات ما يعطى باليمين يسترد مضاعفاً بالشمال بزيادات هائلة في أعباء الحياة اليومية.
ولذلك فإن طبيعة تحركات القوى غير العمالية قد طرأ عليها تغيير واسع، بينما كانت تنصب حركات الفئات الوسطى على مطالب الحريات السياسية والديمقراطية، وتراها اليوم قد اتسعت راهناً لمطالب اقتصادية اجتماعية نتيجة تدهور أوضاعها.
كان القضاء المصري الحديث منذ نشأته وعلى مدى عقود طويلة (ولا يزال) أحد مفاخر مصر، وهو يتمتع بسمعة دوليه طيبة للغاية، وكان ولايزال حريصاً على استقلاليته عن هيمنة الحكومة ولا يزال جسده الرئيسي معافى حتى الآن رغم التردي الشامل في البلاد. وقد خاض طوال السنوات الأخيرة معارك الاستقلالية والديمقراطية عبر مؤسسة «نادي القضاة». ولكن وضع القضاة الاجتماعي قد تردى إلى حد بعيد. وفي غمرة مقاومة القضاة لمشروع قانون أعده وزير العدل ينال من استقلالية القضاة ويعلي من سلطة الوزير عليهم في مخالفة دستورية سافرة، وكذلك في مطالبتهم بموازنة مستقلة لكل القضاة يتولى إدارتها المجلس الأعلى للهيئات القضائية كضمان للاستقلالية عن الحكومة، في غمرة ذلك كشف نادي القضاة عن التردي الشديد في رواتب جميع القضاة، وأعد مذكرة رفعها إلى مجلس القضاء الأعلى لتعديل الرواتب في موازنة عام 2008. وهى رواتب لا تتناسب إطلاقاً مع منزلة ودور وجهد القضاة، في وقت كشف فيه استجواب في مجلس الشعب منذ نحو 3 سنوات عن أن شباباً يعملون في البورصة المصرية تقل أعمارهم عن 30 عاماً يصل راتب الواحد منهم إلى 27000 جنيه في المتوسط أي ما يعادل رواتب عشرة قضاة مرموقين!! وبرر وزير المالية ومدير البورصة ذلك آنذاك بأن هؤلاء الشبان المحظوظين يعملون كخبراء في البورصة وبالتالي تتم معاملتهم مثل أقرانهم في البورصات الأمريكية والأوروبية!! ولاندري لماذا لاتتم معاملة القضاة أو غيرهم من العاملين كنظرائهم في أوروبا وأمريكا. ولذلك فإن القضاة قد بدؤوا الدخول في مرحلة جديدة كيفياً في تحركاتهم الواسعة وهي مرحلة يترابط فيها النضال الديمقراطي مع الاجتماعي.
وبموازاة ذلك تتكشف فضيحة الرشاوى التي تم منحها لأعضاء مجلس الشعب عن حزب الجماعة الحاكمة وحدهم دون غيرهم من الأعضاء والتي وصلت إلى ما يزيد عن 100 ألف جنيه لكل منهم، أدعى الأعضاء أنهم أنفقوها في إنجازات في دوائرهم، ولكن هذه الإنجازات امتدت إلى مساعدات في زواج أنصارهم أو علاجهم.. الخ . ويسأل الناس: أين دور الدولة إذن طالما توزع الأموال على البعض تحت شعار إنجاز أعمال في دوائرهم المليئة بالمشاكل، بينما تتقاعس الحكومة عن الإنجاز لصالح المواطنين.
وفى الوقت نفسه فإن حركة العاملين بالضرائب العقارية قد بلغت ذروتها بسبب التدني المروع في رواتبهم بالمقارنة مع باقي العاملين بالضرائب. فقد تم إغلاق كافة مقار الضرائب العقارية بالبلاد، وينخرط حوالي عشرة آلاف من الرجال والنساء في الاعتصام أمام مقر مجلس الوزراء وأعلنوا أنهم سيقضون عيد الأضحى المقبل في المكان نفسه رافضين تماما ًإنهاء الاعتصام إلا بعد مساواتهم بزملائهم وأقاموا لذلك خيمة وهتفوا مطالبين بطرد رئيس الوزراء. وهو مشهد مشابه لاعتصامات المعارضة اللبنانية في بيروت.
إن التحركات الواسعة لكل طبقات وفئات الشعب تتزايد مستخدمة أساليب جديدة ومكتسبة لخبرات جديدة . وهو ما يشير إلى ما يلى:
1. أن سلطة رجال العمال الكبار الليبراليين الجدد تتعمق شموليتها بالهيمنة المطلقة على مجلس الشعب بكل الوسائل بما فيها استخدام الرشوة، كما تعمل على الهيمنة على القضاء بتشريعاتها من ناحية وعبر سياسة الأجور وتدني رواتب القضاة من ناحية أخرى.
2. أن الحالة الموضوعية تتطور ببزوغ جدل الوطني والطبقي والديمقراطي، وهو ما يؤكد تصاعد هذا الوضع في المستقبل القريب بتداعياته الإيجابية على النضال الشعبي العام.
3. أن كل محاولات السلطة للالتفاف على المشاكل أو إحداث الانقسامات داخل مختلف القوى الناهضة لن تجدي نفعاً في المرحلة القادمة.
4. ونتيجة لذلك، وبالنظر إلى الأساليب الجديدة في الحركة، فإن مقدمات أكيدة للعصيان المدني قد بدأت تلوح في الأفق.
5. ومن هنا فإن الصعوبات الناجمة عن تشرذم التحركات، خصوصاً في غياب اليسار (المرتد والمقايض) المبتعد عن خبرته التاريخية في لملمة وتنظيم حركة الجماهير، هذه الصعوبات سوف تنحسر ببزوغ يسار حقيقي نظيف يقوم بالدور المنوط به تاريخياً.ً
إن البلاد على شفا عصيان مدني تؤكده التطورات المتسارعة. والمخلصون للوطن والشعب لابد أن يكونوا في سباق مع الزمن.