أميركا العليلة
تسلك الإدارة الأمريكية سلوك الثري الذي اكتشف إصابته بمرض عضال. فراح ينفق أمواله على أي أمل للشفاء. وهذا المرض لايهدد المحافظين الجدد فقط بل يهدد أيضاً الاقتصاد الأمريكي بمجمله. وهذا ما يفسر الإنفاق الجنوني لهذه الإدارة. فقد دعمت مخابراتها بدفعة أربعين مليار دولار على حساب 11 أيلول. ثم أقرت لهذه المخابرات زيادات في ميزانياتها (مع سماح ضمني بالعودة للعمليات السوداء لتغطية حاجاتها). ثم تفتق ذهن الإدارة عن وزارة للأمن القومي بتكلفة سبعين مليار دولار...الخ. حتى بات المحللون يتنافسون بتقدير أرقام خيالية عن عجز الموازنة الأمريكية. لذلك يطرح السؤال نفسه عن كيفية تغطية هذه النفقات؟
لقد ضغطت السياسة الأمريكية على عملائها الاقتصاديين (دول الخليج العربي) على ضخ أموالهم في السوق الأمريكية لأن الطوفان والخراب سيلحقان بهم إذا ما امتنعوا عن هذا الضخ. كما زادت الإدارة من حصارها على ما سمتهم بالمارقين وساومت بعضهم ولا تزال. فتمكنت بذلك من كسب بعض الاستقرار المؤقت. لكن المرض لا يزال موجوداً.
هذه الوقائع تطرح أسئلة عديدة لكن سؤالاً هاماً يتصدرها جميعاً، وهو عما إذا كان الاقتصاد الأمريكي قادراً على الشفاء؟؟؟. فأزمة الاقتصاد الأمريكي هي أزمة بنيوية لايمكن للعوامل والمؤثرات الخارجية علاجها ما لم يتم هذا العلاج من داخل النظام الرأسمالي. في حين تخطو الإدارة الأمريكية في الاتجاه المعاكس لهذا الإصلاح. مما سيجعل من الكارثة الاقتصادية القادمة أكثر حدة وهولاً خصوصاً بعد أن استهلك بوش كل السيولة الأجنبية الممكنة بالضغط والتهديد، بحيث لم يعد أمامه سوى اللجوء إلى العمليات السوداء. والأسوأ من ذلك أن تدرك هذه الإدارة استحالة الشفاء واقتراب أجل خروجها من البيت الأبيض. ففي هذه الحالة لن يعود للمنطق أية قدرة على ضبط هيجان إدارة مندفعة على الموت. فالمريض الميؤوسة حالته يحاول الانتقام بطرق مختلفة قبل مماته ومنها السعي لنقل العدوى للآخرين إلى اكبر عدد ممكن وخاصة إلى شركائه.
نخشى أن تكون الولايات المتحدة قد بلغت هذه المرحلة. فإدارتها لم تكتف بالإنفاق الهستيري على مخابراتها بل هي تحاول إجبار الآخرين على مشاركتها هذا الإنفاق. وهي لا تمانع من رفده بفساد الشركات. حيث بدأت تتكشف سلسلة فضائح استغلال المستثمرين وخداعهم من قبل كبريات الشركات الأمريكية. وفقدان ثقة هؤلاء المستثمرين يعني انهيار الهيكلية التنظيمية لبيوتات المال الأمريكية الكبرى وتجنب كلي للاستثمار في الأسواق الأمريكية وبالتالي الانهيار المالي الأمريكي.
لا نشك لحظة بارتباط مصالح دول غنية وقادرة بالاقتصاد الأمريكي. وعجز هذه الدول عن تحمل كارثة تصيب الاقتصاد الأمريكي فتنعكس عليها بكوارث أكبر. وهذه النقطة ربما تكون خط الدفاع الأخير لهذه الاقتصاديات. ولكي ندرك حجم خطورة ما يجري نذكر بالتالي:
انخفض مؤشر داو جونز 508 نقاط يوم الاثنين في 19/10/1987 فصرح المسؤولون: إذا استمر الوضع على هذا الحال فإن كل شيء سوف ينهار. فكانت خطوة ريغان الشهيرة بوقف التعامل في البورصة. وهو اختراع سجل باسم ريغان تحت تسمية «قطع التيار عن السوق». وكانت خسائر ذلك اليوم 500 مليار دولار. لذلك سمي بـ«الاثنين الأسود».
انخفض داو جونز 624 نقطة بعد قطع التيار من 11 إلى 17 أيلول 2001 لكن الإدارة كانت مستعدة، وضخ أصدقاؤها المال في البورصة فاستقرت إلى حين.
اليوم وبعد سلسلة فضائح الشركات من انرون إلى وورلد كوم (والبقية تأتي) انخفض داو جونز 1775 نقطة. ولا تتوافر أية معلومات عن الحجم الحقيقي للخسائر. لكن الإدارة لا تزال تأمل بتشغيل الآليات السوداء (اختراع ريغان) كمثل ضخ أموال سوداء في السوق وتبييض أموال عن طريقها. فالمهم أن تستقبل السوق أموالاً جديدة.
إن احتكار «الصقور» الذين أوصلوا بوش للبيت الأبيض لا يروق لفئات واسعة من المتمولين المطلوب منهم إنقاذ السوق. لذلك نعتقد أن المساومات بدأت على إخراج تشيني ورامسفيلد بفضائح مالية. بل ربما يصر المتضررون من هذه الإدارة على إخراج بوش نفسه بفضيحة من هذه الفضائح المالية. فهو ليس بعيداً عن أي منها. أقله أنها ساعدته في تمويل حملته الانتخابية. فهل بدأ زمن الانهيار الأمريكي؟
البقية قادمة لا محالة: بعد كل هذه المؤشرات على سوداوية السياسة الأمريكية نتذكر كتاب جورج سوروس، المضارب العالمي، حيث يؤكد معاناة النظام الاقتصادي الأمريكي من فيروسات تجعله غير قابل للشفاء. كما تجعله مهدداً من داخله. ولعله من واجبنا أن نتابع بدقة مؤشرات هذه الفضيحة وانعكاساتها المستقبلية على الإدارة الحالية قبل الخضوع لشروطها.