لماذا لم يؤد انخفاض سعر الدولار إلى تحسن الميزان التجاري الأمريكي؟
عندما بدأت أسعار الدولار بالانخفاض منذ أكثر من أربع سنوات, وبوتيرة سريعة, توقع عدد غير قليل من الخبراء والمحللين الاقتصاديين أن تؤدي هذه العملية إلى تحسن الميزان التجاري لمصلحة الولايات المتحدة, الأمر الذي سيقود إلى تراجع العجز فيه, بل إن بعض المحللين قد غالى في ذلك واستنتج أن الولايات المتحدة تعمدت خفض سعر الدولار, بعد أن فشلت في إقناع الصين بتغيير سعر عملتها من أجل تنشيط الصادرات الأميركية.
لكن بعد مرور وقت طويل, ووصول سعر الدولار إلى تدن غير مسبوق أمام كل العملات الدولية, رغم كل ذلك, فإن الميزان التجاري الأميركي حافظ على وضعه قبل تراجع سعر الدولار, بل إنه سجل أرقاماً قياسية جديدة في العجز أمام السلع التي تتدفق على الأسواق الأميركية من كل جهات الدنيا, فما هي العوامل التي حالت دون تحسن الميزان التجاري الأميركي رغم انخفاض سعر الدولار؟
قبل تحديد هذه العوامل لابد من الإشارة بداية إلى أن الرهان نبع من اجتهاد يقول إن انخفاض سعر الدولار يدفع المستوردين من الولايات المتحدة إلى شراء بضائع وسلع أكبر مما لو كان سعر الدولار مرتفعاً, والطلب على السلع الأميركية يؤدي إلى تحسن الصادرات الأميركية وبالتالي انتعاش الاقتصاد, ولكن هذا الاجتهاد لم يتضح أنه واقعي, إذ إن الانخفاض الحاد في سعر الدولار لم يؤد إلى تقوية الطلب الخارجي, ولم يؤد إلى زيادة الصادرات الأميركية, وذلك يعود إلى:
أولاً, مهما كان انخفاض سعر الدولار, إلا أن عملات الكثير من الدول التي تصدر إلى الولايات المتحدة, وخصوصاً الصين والهند والمكسيك والبرازيل, هي أدنى من سعر الدولار ومهما تراجع سعره فإنه لن يكون قادراً على إحداث توازن يجعل سعر السلع المنتجة في الولايات المتحدة يوازي سعر السلع المنتجة في الهند والصين أو المكسيك, فمدخلات هذه السلع خارج الولايات المتحدة هي أقل كلفة بكثير من مدخلاتها في الولايات المتحدة, ولهذا لا يمكن إغفال أثر هذا العامل على استمرار العجز في الميزان التجاري الأميركي رغم انخفاض سعر الدولار.
ثانياً, تشير الإحصائيات إلى أن (60%)من إجمالي الناتج الأميركي يأتي من شركات أميركية تعمل خارج إطار الولايات المتحدة, وهذا يعني أن الطلب داخل الولايات المتحدة هو على إنتاج أميركي يصنع خارج حدود الولايات المتحدة, وليس من مصلحة الولايات المتحدة التضييق على عمل شركاتها في الخارج التي نقلت مصانعها أو فرع من هذه المصانع للحفاظ على لياقتها التنافسية, وبهذا المعنى, فإن مجمل العملية الاقتصادية لم تعد تتحكم فيها المعايير التقليدية, ولهذا جاءت النتائج مخالفة لتوقعات بعض الخبراء الذين التزموا منهجاً في التحليل لم يعد يلائم المعطيات الواقعية القائمة في الاقتصاد العالمي اليوم, سواء أكان الأمر يتعلق بأداء الاقتصاد الأميركي أو الاقتصادات الأخرى.
فشل تدني أسعار الدولار في تحسين الميزان التجاري الأميركي يترك انعكاسات سلبية على الاقتصاد الأميركي وعلى معيشة المواطنين هناك, فهو يؤدي من جهة إلى رفع الأسعار لأنه كلما تدنى سعر الدولار كلما كانت قدرته الشرائية أضعف إزاء السلع التي يستهلكها الأميركيون وتستورد من الخارج, كما أن هذه العملية تقيد يدي الاحتياط الفيدرالي وتجعله عاجزاً عن مكافحة التضخم, وهذا ما حدث فعلاً, إذ كان من المتوقع أن يعمد إلى رفع سعر الفائدة لدعم الدولار, ولكنه اضطر إلى خفض أسعار الفائدة خوفاً من التضخم, وذلك قاد بدوره إلى زيادة المصاعب التي تواجه الدولار.