عادل بدر سليمان عادل بدر سليمان

الإدارة الأمريكية.. ما وراء العناوين؟

لا يكاد يخلو مقال يتناول الإدارة الأمريكية الحالية، سواء في التركيبة البنيوية والإيديولوجية، أو في السياسة المتبعة وانعكاساتها، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، من مفردات اعتادت عليها الأذن، يخال سامعها أو قارئها أنها مجرد عبارات تعنى بتوصيف حالة فكرية عادية، ذات مضامين سياسية، دينية، اقتصادية وحتى عسكرية، ينتمي إليها أركان نظام حكم ما. فمفردات كـ «محافظون جدد، يمينيون محافظون، مسيحيون أصوليون، أو اليمين المسيحي المتدين» ربما تكشف النقاب عن جوانب محددة من تلك  الحالة الفكرية (العادية)، بيد أن ما أنتجته من مصطلحات كـ«creative chaos» التي يترجمها البعض بـ «الفوضى البناءّة أو الخلاّقة» وهي أقرب لمعنى «إعادة التشظي» - في انتظار الاهتداء إلى مصطلح أفضل- «الحرب على الإرهاب،  أنظمة الاستبداد، الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، محور شر، محور اعتدال، حرب استباقية، الحرب على الاستبداد، نشر أو ترويج الديمقراطية، مبدأ قطع الدومينو، مبدأ القتل المستهدف»، تثير الريبة في كونها مجرد طرح سياسي موضوعي، بل هي أدوات منهجية تفتقر للكثير من الشرعية، وبعيدة عن الأسس الأخلاقية-القانونية التي ينبغي أن يستند إليها القرار السياسي، ليتضح أنها مجموعة أكاذيب للتضليل والتوظيف السياسي، تعتمدها جماعة ذات توجه ميكيافلي تؤمن بـ «كفاءة الكذب المعتمد في السياسة» في إطار نظام حكم ليبرالي!

هذه الجماعة بكل بساطة،هي التي تحكم الآن في الولايات المتحدة، إنها إدارة الرئيس بوش الحالية والسابقة التي ينتمي أقطابها لفكر ما سمي بحركة «المحافظين الجدد» التي قفزت إلى واجهة صياغة الرأي العام الأمريكي، بعد تراجع اهتمامه بالسياسة الخارجية، عقب نهاية الحرب الباردة.
أما بالنسبة لنا نحن في الشرق، فما إن وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول، حتى بدأت محطة (فوكس نيوز) تكشف لنا بعضاً من «رؤية» هذه الحركة لما يجب أن يكون عليه الشرق الأوسط. والوضع الكارثي الذي يمر به العراق حالياً، ومن قبله أفغانستان واليوم تحضير لبنان للدخول في التجربة ذاتها، إلا أمثلة حيّة لتلك «الرؤية».
تنوعت الإرهاصات الفكرية للمحافظين الجدد انطلاقاً من تبنيهم لآراء المفكر الأميركي اليهودي الألماني الأصل «ليو شتراوس» (1899- 1973)، والتي استوحى منها المحافظون الجدد أهم مبادئهم:
- أهمية النظام السياسي: هناك أنظمة جيدة وأخرى سيئة عند شتراوس، ويجب على الأنظمة الجيدة أن تدافع عن نفسها في مواجهة الأنظمة الفاسدة، وهنا يمكن ملاحظة مدى الانسجام بين هذه الفكرة وفكرة( محور الشر)، ( كوريا الشمالية، كوبا، فنزويلا، إيران....).
- التعظيم شبه الديني للقيم الأمريكية: ولهذا نرى بوش  يفضّل استخدام كلمة حرية على الديمقراطية؛ إذ تعد بالنسبة له «حرية اكتشاف الرب»، وهو غالباً ما يكثر من استخدام الشعارات والعبارات الدينية لإضفاء صفة القداسة على حربه المزعومة ضد الإرهاب، وذلك لإيهام الرأي العام بأنه يخوض حرباً عادلة مقدسة من أجل القضاء على الشيطان الرجيم، وهنا يلاحظ مدى تأثر بوش بأفكار القسيس «بيل غراهام» الأمر الذي نقله إلى مسار الأصولية المسيحية، وقد ساهم «غراهام» في بروز نجم جماعة عرفت بـ (اليمين المسيحي المتدين) انطلقت في رؤيتها للسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط والعالم، من منطلقات دينية خطيرة، تؤمن بأن العالم وأميركا يسيران بسرعة إلى نقطة هاوية صدامية، تمثل نهاية العالم، من خلال حرب «تأتي على الأخضر واليابس»، ويكون مركزها الشرق الأوسط، ويقودها العالم كله ضد أمريكا وحلفائها وعلى رأسهم (إسرائيل).
يرى شتراوس أن أساس قوة الليبرالية ممثلاً في الحرية الفردية هو ذاته الذي يهددها من الداخل، الأمر الذي يستدعي إيجاد تحد خارجي يوحد «الأمة»، في الوقت ذاته الذي يجري فيه التركيز على الأبعاد الأخلاقية والدينية وتوظيفها في سياق المحافظة على وحدة المجتمع، وفيما بدا أن الأبعاد الدينية والأخلاقية غير كافية من دون توفر العدو الخارجي، فقد جهد المحافظون الجدد في تصوير الاتحاد السوفييتي، متجاهلين ما كرسه من مبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، ومساعدة شعوب البلدان النامية في التحرر والتنمية، ودعم حركات التحرر الوطني، كـ(قوة شر) يمكن للولايات المتحدة أن تتوحد في مواجهتها!
من نافل القول أن تيار المحافظين الجدد لا يقتصر فقط على مجموعة من الأقطاب السياسية تقبض على مفاصل السلطة في الولايات المتحدة، أمثال أولئك الذين يطلق عليهم «الصقور» بما تعنيه الكلمة من تشدد ولي عنق الحقائق من أجل الايديولوجيا والميل للنزعة التدخلية العسكرية في السياسة الخارجية، من أبرزهم: ديك تشيني نائب الرئيس ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق ونائبه السابق بول ولفويتز، الرئيس السابق للبنك الدولي وجون بولتون المندوب السابق في الأمم المتحدة (الحائز على وسام الأرز من «العيار الشُباطي»!) وستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض ورايس وزيرة الخارجية الأمريكية – وأحياناً «قابلة قانونية» فاشلة لشرق أوسط جديد لم يولد بفضل «الوعد الصادق» وريتشارد بيرل الذي يعُرف بـ(أمير الظلام). تجدر الإشارة هنا إلى ما كشفه الكاتب الأمريكي (بوب ودورد) في كتابه المعنون بــ(State of Denial)؛ «حالة نكران» عن طبيعة العلاقة المتميزة بين الرئيس بوش وبين أمير عربي متبندر يتمتع بنفوذ وتأثير سلطاني ليس فقط في حلقة صنع القرار في واشنطن بل إن لديه منزلة خاصة لدى بوش وهذا عائد لمكانة بلده النفطية ولأنه «يُكرم» بوش بنصائحه الميكيافلية.
إلا أن المحافظين الجدد ليسوا ساسة فقط، فخطورتهم تكمن في أنهم كتاب ومفكرون وأصحاب فكر يمتلكون أضخم ماكينة إعلامية في العالم، وأكبر مراكز للبحوث أو ما يعرف بـ «Think Tanks» – مجالس الخبراء، وهي منظمات تقوم بدراسة وتحليل الهام من القضايا العامة، ومن أشهرها «معهد المشروع الأمريكي»، و(مشروع قرن أمريكي جديد) الذي يرأسه ويليام كريستول، ومعهد بروكينغز، ومركز سابان للصهيوني حاييم سابان. تقوم هذه المعاهد بنشر أفكار المحافظين الجدد عبر شبكة واسعة من وسائل إعلامية متنوعة؛ مطبوعة من أشهرها مجلة (كومنتري وويكلي ستاندرد) التي يرأس تحريرها وليام كريستول الذي أسس والداه ارفينج كريستول حركة المحافظين الجدد، وواشنطن تايمز ونيويورك بوست وناشونال ريفيو. تقوم جميعها باستضافة جوقة عريضة من كتاب وصحافيين وأكاديميين يروّجون لفكر المحافظين الجدد وللمشروع الأمريكي.
الرابط المشترك بين هؤلاء المحافظين الجدد، هو ولاؤهم لفلسفة شتراوس الذي يصر على أنه إذا لم يوجد أي تهديد خارجي، فإنه يجب صنعه... وبالتالي يتوجب على الولايات المتحدة أن تحارب طول الوقت للبقاء، فالسلام يؤدي إلى الانحطاط، ولذلك فإن الحديث عن تنشيط عملية السلام جراء (أنابوليس) ليس أكثر من زر الرماد في العيون تمهيداً لحرب أخرى قادمة.