اجتماع (أنابوليس).. مقدمات ونتائج ممهورة بالدماء
قبل عودة المدعوين، شهود كرنفال (أنابوليس) إلى دولهم، انقشع غبار المبارزات اللغوية الفاقعة بدلالاتها الواضحة التي أطلقها أبرز المتحدثين «بوش، اولمرت، عباس» والذين وصفهم «ايتان هابر» رئيس ديوان إسحاق رابين سابقاً، في أحد أعداد صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أيام: «ثلاثة زعماء منتوفي الريش مصابين بجراح المعارك ومتعبين، وقفوا على منصة الخطباء راغبين (جداً) في الوصول بهذه الحكاية الدموية إلى خاتمتها السعيدة، ولكنهم لا يستطيعون على ما يبدو. بوش، عالق في العراق مع أربعة آلاف قتيل، وسيدخل التاريخ الأمريكي كرئيس متعثّر فوضوي. أبو مازن، يعيش (على الأقل في منصبه كرئيس) على الزمن المستقطع، حيث يمتلك خصومه من حماس بيدهم القوة الحقيقية. أما أيهود خاصتنا، أيهود أولمرت، فما زال يعاني من متلازمة لبنان ومرض فينوغراد، ويتمتع بدعم شعبي قليل».
أصر رئيس حكومة العدو أن تكون الطريق إلى اللقاء الدولي المجتمع تحت الخيمة الأمريكية معبّدة ومرصوفة بجثث الشهداء الفلسطينيين، وعذابات الشعب الفلسطيني المتصاعدة منذ ستة عقود، فقد شهد تشرين الثاني المنصرم سقوط 36 شهيداً ـ 33 من قطاع غزة و3 من الضفة الغربية ـ تسعة عشر منهم قضوا في عمليات اغتيال، بالإضافة إلى اعتداءات واسعة من سكان المستعمرات على المقدسات وأماكن العبادة. كما قامت جرّافات جيش الاحتلال بهدم أكثر من ثلاثين منزلاً، وتجريف آلاف الدونمات من الأراضي، وفي هذا الصدد نقلت أجهزة الإعلام عن مكتب وزير الحرب «باراك» قوله في الاجتماع الأسبوعي للحكومة: «إن وزارة الدفاع صرحت للجيش مؤخراً بتوسيع عملياته في ردّ على النيران التي تطلقها حماس لتشمل المواقع العسكرية لحماس» مشيراً إلى أن (إسرائيل) قتلت 22 مقاوماً الأسبوع الماضي، كما شهد الشهر المنصرم لوحده اختطاف قوات الاحتلال لأكثر من ستمائة مواطن ومواطنة، من بينهم عدد من أعضاء المجلس التشريعي والمجالس البلدية.
لم تتوقف وحشية العدو عند حدود القتل بالرصاص والصواريخ، بل امتدت لتعميم الموت البطيء على المواطنين في القطاع في مجالات الحياة المتنوعة. فمابين النقص الشديد في الأدوية والمعدات الطبية، والشحّ الواضح في المواد الغذائية، مروراً بالقضية الأبرز حالياً، وهي قرار حكومة الاحتلال تخفيض كميات الوقود المرسلة للقطاع بنسبة 75% تقريباً... ولا يوجـد في القطاع سـوى غاز الطهو وسينفد خلال أيام إذا بقي الوضع على حاله.
تدل هذه المؤشرات المتسارعة والمتنوعة في آلية القتل والحصار والعقاب الجماعي، على بدء الاجتياح، لكن بالتصعيد البطيء، عبر خطة الفوز بـ(النقاط)، كخيار أقل صخباً من أسلوب (الضربة القاضية)، التي يمكن اللجوء إليها أمام العجز عن تحقيق النجاح في كبح جماح المقاومة المنطلقة من القطاع. ومن هنا تصرّ بعض الكتل السياسية في حكومة العدو على تطوير العملية السياسية مع الفلسطينيين بهدف توفير الغطاء للمجزرة القادمة، وهو ما شدّد عليه «عامي أيالون» الوزير عن حزب العمل يوم الأحد 2/12 أثناء حديثه مع (الإذاعة العبرية) قائلاً: «كلما تقدمت المسيرة السياسية تعزز التوجه لإضفاء الشرعية على عملية عسكرية إسرائيلية في قطاع غزة، سواء في المجتمع الدولي أو الدول العربية أو في أوساط الفلسطينيين أنفسهم... إن الدمج بين النشاط العسكري والعقوبات الاقتصادية والمسيرة السياسية، كفيل بإضعاف قوة حماس وسقوط حكمها في غزة»
إن رهان بعض الفلسطينيين على أن لقاء (أنابوليس) هو منعطف تاريخي، وفرصة لن تتكرر لإحلال السلام... لا يعدو كونه رهاناً على السراب الذي يضلل عيون وعقول المهرولين نحو الوهم! فالاجتماع كما قال عنه أحد المشاركين العرب: «لا يوجد شيء يدعو إلى التفاؤل، والعرب يشعرون جميعاً بخيبة أمل بعد إعلان بوش (التفاهم المشترك) الذي تم التوصل إليه بين الفلسطينيين و(الإسرائيليين) لإطلاق المفاوضات نحو تسوية نهائية للقضية الفلسطينية.. اشترط التفاهم المشترك الذي أعلنه بوش تطبيق أي اتفاق سلام، بتنفيذ المرحلة الأولى من خارطة الطريق، أي تفكيك الشبكات (الإرهابية) في الأراضي الفلسطينية، أي الدخول في حرب مع حركة حماس... إن الراحل ياسر عرفات لم يستطع تنفيذ الشقّ الأمني في خارطة الطريق، فكيف يتمكن عباس الآن من ذلك؟!»
إن موقفاً وطنياً فلسطينياً موحداً، يضع في مقدمة أهدافه تحقيق الوحدة المجتمعية بين المكونات السياسية والأهلية المتمسكة بالمشروع التحرري المقاوم للاحتلال وللهجمة الصهيو-أمريكية، سيوفر المادة الصمغية الجامعة للأرض والمجتمع في توحدهما، للتصدي للحملة العدوانية التي تستهدف شعبنا في غزة، وتقطع الطريق على المتعهدين (المحليين) لتنفيذ الشقّ الأمني لخارطة الطريق التي ستفجر في حال تحققها، صراعاً عنيفاً داخل مناطق الضفة المحتلة، فالدماء الغزيرة التي سالت وتسيل في غزة ورام الله ونابلس والخليل وبيت لحم، تؤكد أن وثيقة (التفاهم) وبرامج وخطط (أنابوليس) لن تكون سوى النسخة الأكثر مأساوية لاتفاق أوسلو وتوابعه، خاصةً وأنها تستهدف قوى المقاومة وسلاحها المشرّع فقط في وجه المحتل الصهيوني.
إن قوى المقاومة والكفاءات الوطنية وهيئات ولجان العمل الأهلي، مطالبةٌ اليوم بالإسراع للجلوس إلى طاولة حوار يناقش المجتمعون حولها المشكلات الراهنة، ويتوافقون فيما بينهم على البرنامج الموحّد للعمل الوطني الذي سيوفر آليات العمل الجماعي لانتشال شعبنا وقضيتنا من الكارثة التي تحيط به، ولتمنع (البعض) من دفع مشروعنا الوطني نحو الهاوية.