اشتباكات البصرة من منظور لا طائفي
مع كسر تيار الصدر في العراق «للهدنة» المعلنة مع قوات الاحتلال الأمريكية والقوى السياسية المنافسة مذهبياً، تشكل عودة الاشتباكات والاضطرابات الدامية إلى البصرة ومحيطها نقطة تحول جديدة في تشابك وتعقد اللوحة العراقية بأبعادها الداخلية والإقليمية ودائماً تحت تأثير الاحتلال الأمريكي.
إن اخطر وأدق ما في المواجهات التي تشهدها البصرة ومحيطها وصولاً إلى بغداد بين عناصر تيار الصدر والقوات العراقية بإشراف عسكري أمريكي ومع تدخل المروحيات الأمريكية، ليس أن بعضاً من قذائفها يطال مراكز الاحتلال الأمريكي وقواته وعتاده (وهو ما يفترض أن تتمركز عليه)، بل في حقيقة أن هذه المواجهات تمهد الطريق لاتساع دائرة الاقتتال الأهلي العراقي حتى داخل الطائفة الواحدة، وهو غاية منى الاحتلال الأمريكي ومن والاه في الداخل العراقي وارتبط بالمصالح معه، وبالتخلي عن طائفيته للمفارقة، سواء داخل الحكومة أو خارجها، أي أن هؤلاء العملاء يضعون الاعتبار لمصالحهم أولاً ولو على حساب طائفيتهم ومذهبيتهم التي يعملون على تأجيجيها لدى العراقي العادي ليبقوا هم أصحاب النفوذ بالوكالة عن الاحتلال الأمريكي وتنفيذاً لخططه التقسيمية التفتيتية.
ومن هنا فإن توجيه الحراب باتجاه العدو الأساسي، المتمثل في قوات الاحتلال، يبقى البوصلة الأساسية لأي عمل مسلح في العراق، وإن كل ما سواه من استهداف حالي لعراقيين آخرين بمن فيهم العناصر في داخل الحكومة المعينة أمريكياً ومن في فلكها، هو صب للماء في طاحونة الاحتلال بما يبرر إطالة أمد بقائه في العراق تحت ذريعة الفراغ والضرورات الأمنية وعدم قدرة العراقيين وقوات الأمن العراقية، لا على ضبط أمورهم ولا على «بسط سلطة القانون»، وهي اليافطة التي شُنت على أساسها بإيعاز أمريكي بالطبع «العملية العسكرية» «العراقية» في حي التيمية في البصرة استهدافاً لما يعرف بجيش المهدي، الجناح المسلح للتيار الصدري، والتي اتسعت للنجف وكربلاء والكوت والديوانية والحلة وواسط والناصرية وصولاً إلى ضواح رئيسية في بغداد، وفي مقدمتها ضاحية الصدر، وهي أسماء ذات تمركز طائفي محدد ولكن الاشتباكات فيها تنتقل إلى مستويات مذهبية، حيث تتداخل هنا العوامل المتعلقة بالمرجعيات الدينية والولاءات في داخل الحدود وخارجها.
الصدر يلوح بعصيان مدني و«خطوات أخرى من المبكر الكشف عنها» ويطالب بتحرير معتقليه من السجون، والمالكي الذي فرضت قواته حظر التجول في مدن الجنوب العراقي يهدد بعواقب وخيمة إذا لم يسلم الصدريون أسلحتهم في غضون ساعات، والأمريكي يراقب ويتدخل ويقصف عند الضرورة، أما من يدفع الثمن فهو، كما دائماً، المواطن العراقي في حياته وأمنه وإمكانية وصوله إلى مصادر عيشه وحتى مقاعد دراسته وأماكن عمله.
إن أسوأ ما في المقاومة العراقية هي أنها أسيرة الأطر الطائفية والمذهبية، وأنها ليست ذات إطار وطني يحميها في جبهة موحدة تتكاتف فيها القوى لتعيد تذويب فروقاتها الطائفية والمذهبية في وجه العدو الأوحد دون ارتكاب أخطاء ميدانية وسياسية كبرى يدفع الشعب العراقي ثمنها في نهاية المطاف.
وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند يقول «إن محاولات إحلال السلام في العراق فشلت»، ولكنه يستدرك أن «المهمة في هذا البلد لم تنته بعد» لأن «عدم وضع الخطة المناسبة لمرحلة ما بعد الحرب أدت إلى تقويض جهود إحلال السلام في العراق وعلى نحو أسوأ بكثير مما كان متوقعاً».
فماذا خلف الأكمة؟ في توقيت لافت وعشية اندلاع المواجهات الأخيرة بين عناصر التيار الصدري والقوات العراقية تسرب في الصحافة البريطانية والأمريكية خبر مفاده أن واشنطن طلبت من لندن عودة قوات الاحتلال البريطانية للبصرة لضرورات أمنية معربة عن استعدادها لدعم هذه القوات لوجستياً وبعديد القوات أي أن الاحتلال الأمريكي يعلن استعداده وربما يمهد للدخول إلى البصرة مباشرة وبقواه هو، رغم كل ادعاءات واحتفالات «تسليم المهام الأمنية للقوات العراقية هناك» سابقاً، ولكن ذلك تزامن مع تقارير من مصافي النفط جنوب العراق تتحدث عن أن «الإنتاج الفعلي للنفط هناك يتجاوز المعدّل المعلن عنه وهو (1,8 مليون برميل) إلى (2 مليون برميل يومياً) علماً بأن الإنتاج الحقيقي يسد احتياجات السوق المحلية التي تعاني من شح مستمر، ليذهب النفط «المعلن» لدفاتر الحسابات المزدوجة لدى المحتل صاحب السلطة الحقيقية في العراق ولتبق حسابات وعائدات الحصة غير المعلنة من النفط ومشتقاته، والتي يجري تهريبها، في تحكم الأيادي المتنفذة في الحكومة المحلية في البصرة والتي تسيطر على شركة نفط الجنوب، وتشمل هذه «الأيادي» شبكة تهريب معقدة تتألف من أحزاب ومليشيات مسلحة برزت بعد سقوط النظام السابق، وعوائل محتمية بغطاء الميليشيات تبسط نفوذها على الموانئ والأرصفة البحرية على طول ساحل شط العرب.
إن معالجة تجليات الفوضى المترتبة على استمرار بقاء قوات الاحتلال في العراق بقواته وشركاته الاحتكارية والأمنية الخاصة والاستخبارية التخريبية، عبر منظور وطني واجتماعي-طبقي وليس عرقي، طائفي، مذهبي، هو ما يشكل المدخل لمعالجة آثار تلك الفوضى التي يريد المحتل تكريسها أكثر فأكثر، وبالتالي فإن تثخين جراح المحتل وإلحاق المزيد من الخسائر به بغية حرق أرض الرافدين من تحته أكثر فأكثر أيضاً لدفعه نحو الرحيل هو ما سيفرط عقد أتباعه وأزلامه في نهاية المطاف، وإن المقايضات والتسويات ولعبة الدخول والخروج من هياكل التمثيل السياسي العراقي، حكومياً وبرلمانياً والذي يجري استخدامه لتمرير القوانين التي تخدم المحتل وشركاته الاحتكارية، مع مختلف أشكال الهدنة، ماهي إلا استراحات يتمكن فيها الاحتلال من التقاط الأنفاس، وإطالة أمد الاشتباك الذي لا يطاله هو، بل يبقيه على خطوط تماس الاقتتال الداخلي العراقي بما يعنيه ذلك مرة أخرى من انعكاسات داخلية وإقليمية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.