مجرمو الحرب مابين «التعقيدة القضائية» و«عقدة الضاحية الجنوبية»
تشهد العلاقات الدبلوماسية بين الحكومة الإسبانية، وحكومة العدو الصهيوني، مداولات عديدة، تدور داخل الغرف المغلقة، وعبر حقائب البريد الدبلوماسي بين وزارتي الخارجية، حول الدعوى المرفوعة ضد قادة سابقين كانوا في مركز القيادة والقرار في جيش الحرب الصهيوني أثناء تنفيذ هذا الجيش للحرب الوحشية على قطاع غزة.
وقد جاء نشر جريدة «يديعوت أحرونوت» قبل أيام للخبر المتعلق بالشكوى/الدعوى المرفوعة ضد جنرالات الجيش، من إحدى المنظمات الإسبانية الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، ليعيد فتح ملف الجريمة/القضية التي عرفت حينها «تصفية صلاح شحادة»، التي نفذت في قطاع غزة قبل ست سنوات، وأدت إلى استشهاد القائد القسامي، بالإضافة إلى خمسة عشر فلسطينياً، كان من ضمنهم أحد عشر طفلاً، كما أصيب العشرات من المواطنين المدنيين بجراح متفاوتة. قبل ثلاثة أشهر طلبت تلك المنظمة الإسبانية من المحكمة في مدريد استصدار أوامر اعتقال بحق أولئك العسكريين الذين كانوا ضالعين في اتخاذ قرار قصف الطائرات للمبنى السكني الذي يقيم فيه صلاح شحادة: رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون، وزير الدفاع الأسبق بنيامين فؤاد بن إليعيزر، رئيس المخابرات السابق آفي ديختر، رئيس الأركان الأسبق موشيه بوغي يعلون، قائد سلاح الجو الأسبق دان حلوتس، رئيس قسم العمليات الأسبق اللواء غيورا آيلاند، وقائد المنطقة الجنوبية الأسبق دورون ألموغ.
الرسالة الإسبانية السرية تضمنت عدة أسئلة موجهة لحكومة العدو، حول طبيعة الإجراءات التي اتخذت لمعالجة القضية، وعن الكيفية التي تناولت فيها الحكومة هذا الملف، خاصة، ضرورة توضيح ماهية الخطوات التي اتخذت ضد كل واحد من هذه الشخصيات، في حال وجودها للآن في مناصب حكومية ورسمية، تتيح لها التمتع بالحصانة. كما طالبت (هذه الرسالة) حكومة العدو أيضاً، بضرورة الكشف عن الوسائل التي طبقتها قيادة الجيش لمنع قتل الأبرياء في العمليات العسكرية. أمام هذه الطلبات الإسبانية، تعيش حكومة العدو أزمة حقيقية. لأن الأجوبة التي سترفع ستؤثر على الطريقة التي سيعالج فيها الأسبان الدعوى. لأنهم- حكومة العدو- يتوقعون من إسبانيا أن تسقط الدعوى مثلما عالجت بريطانيا دعاوى مشابهة ضد ضباط كبار في جيش العدو، كانوا ملاحقين من أجهزة القضاء فيها. ويشار إلى أن حكومة العدو كانت قد عملت قبل عدة سنوات على تهريب رئيس هيئة أركان سابق لجيشها من بريطانيا لوجود مذكرة اعتقال بحقه، كما اضطر الجنرال «دورون ألموغ» إلى البقاء في الطائرة التي أقلته لبريطانيا بعد أن أُبلغ أن هناك أمر اعتقال ضده وأنه سيلقى القبض عليه حال مغادرته الطائرة. وتنتمي اسبانيا إلى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وتبنت في سجل قوانينها القانون الذي يسمح برفع الدعاوى ضد جرائم الحرب. وحسب دستور المحكمة في لاهاي، فإن لكل دولة عضو فيها صلاحية محاكمة عالمية بشأن الاشتباه بتنفيذ جرائم الحرب حتى لو لم يكن للدعوى صلة بالدولة نفسها. وبهذا فإن احتلال حكومة العدو للأراضي الفلسطينية عام 1967 يعتبر حسب هذه المحكمة «جريمة حرب». كما أن ميثاق محكمة جنيف يشير إلى أن كل دولة عضو في المحكمة تملك صلاحية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في أية بقعة في العالم. واللافت لنظر المراقبين كان مضمون الرسالة الجوابية التي بعثت بها «تسيبي ليفني»، إلى وزير الخارجية الإسباني «ميجيل موراتينوس» وطلبت منه التدخل لحل ما أسمتها «التعقيدة القضائية»، إذ ادعت في رسالتها (أن الشكاوى هي سياسية الطابع، ومعادية «لإسرائيل»).
إن هذه الإحالة القضائية، استندت على الجرائم السياسية/العسكرية الوحشية، التي ترتكبها عصابات الحركة الصهيونية، ضد الشعب العربي الفلسطيني وأبناء الأمة العربية، منذ بدايات المشروع الصهيوني/الاحتلالي/التوسعي وللآن. ولهذا فإن ماأسمته ليفني بالتعقيدة القضائية، لايعدو كونه، الاسم الآخر، لـ«العقدة» الأبدية التي تحكم البنية السياسية و«الأخلاقية» لهذا التجمع، وذلك من خلال نظرة هؤلاء المستعمرين للمواطنين العرب. فقد نشأ الكيان على جرائم القتل، والإبادة الجماعية، والطرد والتهجير لسكان البلد الأصليين، والتوسع والتمدد الإحتلالي، بقوة الحروب العدوانية المدمرة، وهذا مايتوضح بالحوار الصحفي المنشور تحت عنوان مقتبس من إجابة المتحدث (لن تكون لدي ذرائع، ففي حوزتي قوة هائلة) في الثالث من الشهر الحالي في الصحيفة ذاتها، بين اثنين من كتابها واللواء «جادي ايزنكوت» قائد المنطقة الشمالية، وأحد أعضاء هيئة الأركان العسكرية، أثناء العدوان على لبنان في تموز/آب 2006. في كل جملة من حديث هذا العسكري، تنتشر رائحة الموت القادم. ومع كل استنتاج لما آلت إليه الحرب العدوانية على لبنان، تتعرى العقلية الحربية، لتظهر بفجاجة وقبح، بشاعة الدعوات لـ«التدمير والإبادة» التي يَعِدُ شعب لبنان ومقاومته الباسلة بها. فهو يصر على تقديم نموذج ماتعرضت له الضاحية الجنوبية لبيروت أثناء العدوان التموزي. (إنها «نظرية الضاحية». ما حدث في الضاحية الجنوبية في بيروت في 2006 سيحدث في كل قرية يطلقون منها نحو «إسرائيل». سنستخدم القوة ضد هذه القرية بصورة غير متناسبة ونلحق فيها دماراً هائلاً. هذه بالنسبة لنا ليست قرى مدنية وإنما قواعد عسكرية... في حرب لبنان الثانية استخدمنا أسلحة كبيرة. فكيف دُمرَتْ 120 ألف منزل؟) لكن عشرات الأطنان من المتفجرات التي ألقتها الطائرات على الضاحية لم تصنع للعدو نصراً، ولا تدمير آلاف البيوت حقق للواهمين في قيادة الأركان إنجازاً. فقد خرج لبنان العربي ومقاومته الباسلة، أكثر مقدرة واقتداراً.
إن تلك الرموز الإجرامية التي تقطر من بين أصابعها دماء الآلاف من المواطنين العرب، لامكان لها سوى قاعات المحاكم، لأنها قد أقامت كياناً استعمارياً/عدوانياً/احتلالياً، على جثث وأشلاء المواطنين العرب الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، ومارست- وماتزال- عمليات قتل وتهديد متواصلة، ضد أبناء الأمة العربية. إن كياناً توسعياً، عنصرياً، يمارس الإرهاب ضد كل أشكال الحياة، لابد له من الانهيار، لأنه ضد منطق التاريخ، وضد كل مكونات المنطقة، ولأنه يحمل عوامل تفككه وانحلاله، بفعل بنيته الداخلية المتنافرة، وكنتيجة مباشرة وحتمية لمقاومة أبناء الأمة، وأحرار العالم له.