من جورجيا إلى الجنوب اللبناني..
كان «البعض» ممن يعمل في السياسة على طريقة «بائع المفرق» يتهمنا بالمبالغة عند تكرارنا لمقولة «إن الولايات المتحدة محكومة بتوسيع رقعة الحرب» في سعيها لحل أزمتها البنيوية، الاقتصادية-الداخلية عبر السيطرة على مصادر الطاقة وامتلاكها بشكل مباشر من قزوين إلى المتوسط.
وكان هذا «البعض» يتصور أن الهتلريين الجدد في مواقع ومراكز اتخاذ القرار داخل الولايات المتحدة ليسوا في وارد التوسع العسكري المباشر أو بالواسطة خارج حدود الشرق الأوسط، باتجاه الجائزة الكبرى، روسيا، مكمن الثروات الطبيعية الهائلة والمعيق المتوقع الأكبر في طريق تحقيق المشروع الكوني الأمريكي للسيطرة على العالم. فهي ليست فقط المكافئ الذري الأهم للولايات المتحدة، بل تمتلك طاقات علمية (ربع تعداد العلماء في العالم) غير متوفرة لأي بلد في العالم.
وإذا كانت الوثائق التاريخية قد كشفت أن «خطة احتلال الاتحاد السوفييتي» كانت جاهزة قبل أن تحتل الجيوش الهتلرية أي بلد في أوربا، فإن تفتيت روسيا شكّل هدفاً استراتيجياً لواشنطن منذ «انتهاء الحرب الباردة». وكانت تجري مقاربة هذا الهدف الكبير من داخل روسيا وخارجها خصوصاً في عهدي غورباتشوف ويلتسين.
كما اتضحت أبعاد هذا المخطط الجيوستراتيجي بعد تفجير البرجين في نيويورك واحتلال أفغانستان والعراق، والتسرع في إعلان خطط ضرب إيران وسورية وسحق المقاومة في فلسطين ولبنان، والعمل على خلق بؤر ساخنة ومتفجرة في العالم، حسب الخبير الاستراتيجي الروسي ليونيد ايفاشوف «من كوسوفو مروراً بالشرق الأوسط وصولاً إلى الحدود الروسية- القفقاسية، وإلى باكستان... خصوصاً بعد تدهور الهيبة السياسية والعسكرية لروسيا، وبالارتباط مع تفاقم الأزمة الامبريالية العالمية مع إيران..».
... وهنا لا بد من التنويه بأن تعثر المشروع الإمبريالي الأمريكي في العراق وما حوله واختلاف الآجال الزمنية لتنفيذه وافتضاح زيف المنظومة الدعائية الأمريكية قبل احتلال العراق وبعده، فرض على التحالف الأمريكي الصهيوني توسيع رقعة الحرب باتجاه لبنان ضد المقاومة اللبنانية، وحزب الله على وجه الخصوص، لما لذلك من علاقة بالبعد الاستراتيجي، لتحالفه مع سورية وإيران والمقاومة الفلسطينية.
لكن انتصار المقاومة والشعب اللبناني بدعم من سورية وكل قوى التحرر في المنطقة والعالم في حرب تموز 2006، وفشل الكيان الصهيوني في أداء دوره الوظيفي المطلوب أمريكياً وبإلحاح، لخلق ما سمته رايس «بالشرق الأوسط الجديد» بالحديد والنار، أوقع إدارة بوش وحلفاءها من كل حدب وصوب في مأزق استراتيجي جديد.
...ولأن الامبريالية الأمريكية لا تستطيع التراجع عن مشروعها الإمبراطوري خشية الانهيار الداخلي، فقد لجأت إلى الاستطلاع بالنار لمدى امتلاك روسيا للإرادة السياسية في مواجهة التطويق الاستراتيجي، الأمريكي-الأطلسي لها سواء عبر الدرع الصاروخية ونشر مكوناته وعناصره على أراضي بولونيا وتشيكيا، أو عبر نظام الرئيس الجورجي ساكاشفيلي الموكل إليه القيام في منطقة القفقاس بذات الدور الذي يلعبه الكيان الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
لعله من المشروع للمراقب السياسي والمواطن العادي أن يتساءل كيف يمكن للمقاومة اللبنانية على قلة عددها أن تنتصر على الجيش الصهيوني المدجج حتى أسنانه بأحدث صنوف الأسلحة الأمريكية، وكيف لجيش روسيا العرمرم أن يقع في الفخ، ويسمح للجيش الجورجي باجتياح أوسيتيا الجنوبية ويبيد أكثر من أربعة آلاف شخص من أصل 70 ألفاً هم مجموع سكانها؟
لن تكون هناك إجابة صحيحة على هذا التساؤل والاستغراب إلا في البحث عن الفارق في الإرادة السياسية لدى كل من قيادة المقاومة اللبنانية ووضوح موقفها المعادي على طول الخط للامبريالية والصهيونية، وبين ما ظهر من ارتباك وتشوش في الإرادة السياسية لدى القيادة السياسية الروسية، ولا يغير من هذه الحقيقة، الاستفاقة المتأخرة بعد أن «وقع الفاس بالراس».
بالمثل، وعلى الرغم مما يحمله الاعتراف باستقلال كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا من مضامين تستجيب لتطلعات شعبيهما، إلا أنه لايمكن تجاهل الأثمان الباهظة لتلك الاستفاقة المتأخرة للكرملين بعد أن وجد نفسه مضطراً لها ولكن ضمن واقع جيوستراتيجي جديد من خطوط دفاع متأخرة بعض الشيء. إذ أنه ليس شيئاً قليلاً تواجد طلائع الأسطول العسكري الأمريكي في البحر الأسود للمرة الأولى منذ ثورة أكتوبر، وليس أمراً ثانوياً توقيع الاتفاق الأمريكي-البولوني حول الدرع الصاروخية، والضخ الإعلامي حول انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف الأطلسي.
كل ذلك يضع القيادة السياسية الروسية أمام أحد خيارين: إما الحسم السياسي والعسكري لإزالة كل الآثار المترتبة عن النقاط التي سجلها التحالف الأمريكي-الصهيوني لصالحه من جراء العدوان على أوسيتيا الجنوبية، وإما البقاء في دائرة التصريحات السياسية، والتي يُخشى أن تكون موجهة لامتصاص نقمة الجيش والشعب الروسيين على تردد قيادة الكرملين.
وإذا كانت أحداث جورجيا أخذت بالزهو وزير حرب العدو إيهود باراك فأطلق تهديداته ضد لبنان، فإن تصريحات الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، رداً عليها تضمنت أبعاداً إستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار أن مسرح عمليات القوى الإمبريالية والصهيونية، من جورجيا إلى لبنان، يفرض علينا في الساحتين الإقليمية والدولية خيار المواجهة وإرادة سياسية لا تراهن إلا على الشعب حتى النصر الأكيد لشعوب هذا الشرق العظيم.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.