بين الرياضة والسياسة
انتهى أولمبياد بكين.. كانت النتائج العربية مفجعة، لكن النتائج المصرية كانت كارثية، تتضح بالمقارنة مع أولمبياد أثينا عام 2004، حيث كانت البعثة الرياضية المصرية أقل عدداًُ، ومع ذلك حصلت على 5 ميداليات. أما الأولمبياد الأخير فكانت البعثة الرياضية مكونة من 100 لاعب ولاعبة بصحبتهم 77 أدارياً!! ولم يحصلوا سوى على ميدالية برونزية واحدة.
كالعادة كان الاهتمام بعد الحدث. إذا أمر رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة تحقيق وطالب بمحاسبة المقصرين. أما «الوريث» جمال مبارك المشغول بجولاته على المحافظات، حيث تتم تعبئة حكومية-إعلامية هائلة لاستقباله، رغم أنه لا يشغل أي منصب رسمي، فيطالب بـ«عدم جلد الذات لدى تقييم نتائج البعثة في بكين»، وقال إن «التقييم يجب أن يكون علمياً للتعرف على أوجه القصور»، وكأن إدارة الأوضاع المصرية لها أية علاقة بالعلم...!
لكن قبل التحقيق بدأ التراشق بين رئيس اللجنة الأولمبية (المنتمي للأسرة الحاكمة) والآخرين، حيث نفى مسؤولية اللجنة عن الإخفاق، وألقى بها على المجلس القومي للرياضة، بينما أتهم رئيس البعثة الرياضية اللجنة الأولمبية بسوء الإدارة وحملّها مسؤولية الإخفاق.. وهكذا تتم إثارة زوبعة في فنجان ليمر الموقف، حتى لو تطلب الأمر تقديم قربان من الحلقة الأضعف في سلسلة المسؤولين.
الإخفاق الرياضي مجرد مؤشر على الفشل والخراب اللذين طالا كل المجالات. كنا منذ عقود نفاخر أن أبطال العالم في السباحة الطويلة، كمال الأجسام، رفع الأثقال (على الأقل) من المصريين، وكانت الرياضات الأخرى منتعشة بدرجات متفاوتة.
يعود الأمر في الفشل الذريع إلى سياسات الطبقة الحاكمة التي تركز فقط على كيفية اعتصار دم المصريين بصورة لا سابق لها، وهو ما يتجلى بالنسبة للرياضة بشكل أساسي في تدمير وتضييق القاعدة الاجتماعية المنتجة للرياضيين رغم الزيادة السكانية الكبيرة.
اهتمت ثورة يوليو بإنشاء الأندية الرياضية (مراكز الشباب) على مستوى الأحياء الشعبية في المدن الكبيرة والصغيرة وحتى القرى، وساعد ذلك على اتساع القاعدة الاجتماعية التي تفرز الرياضيين الواعدين. أما الآن فإن هذه الأندية الشعبية قد تحولت إلى مؤسسات فساد نتيجة هيمنة حزب الجماعة الحاكمة عليها. كما اختفت «فناءات المدارس» وملاعبها التي كانت تسهم بشكل أساسي في توسيع قاعدة المشاركين في ممارسة الرياضة. وتحولت الأندية الرياضية الكبرى والمتوسطة إلى «جيتوهات» لا يمكن اختراق أسوارها نتيجة الرسوم المالية الهائلة للالتحاق بعضويتها (ما يعادل مثلاً 10 آلاف دولار للنوادي المتوسطة). ثم تأتي الطامة الكبرى بضغوط متصاعدة لا تتوقف لخصخصة كل النوادي الرياضية بما في ذلك مراكز الشباب بالقرى في إطار سياسات الإصلاح التي جلبت الخراب للبلاد.
قد يرد البعض أن غالبية البلدان المتفوقة في الميدان الرياضي هي بلدان رأسمالية، وأن أصحاب المليارات يمتلكون أكبر النوادي أو يتبرعون بالملايين للفرق الرياضية، وبالتالي فإن الحل لدينا يكمن في وضع مجال الرياضة في أيدي القطاع الخاص. لكن الفارق كبير بيننا وبين هذه البلدان، ذلك أن هذه البلدان التي يحكمها أصحاب الاحتكارات ويرعون الرياضة فيها، إنما يقومون بهذا الأمر نتيجة للفوائض الهائلة من نهبهم الوحشي للبلدان النامية، بما يمكنهم من توجيه أجزاء من هذه الفوائض المنهوبة إلى مثل هذه المجالات بما تدره عليهم من أرباح ومكاسب أخرى. أما في بلداننا حيث تحكمنا برجوازيات تابعة وعميلة تتيح للإمبريالية نهب كل ما نملك، وتكتفي بدور السمسار، وعلى الأكثر الشريك الأصغر، فإن ذلك لا ينبغي أن يتيح التمثل بهذه البلدان الإمبريالية. كما لا ينبغي التوقف عند تبرعات ناهبي المليارات في بلداننا لبعض النوادي الرياضية أو فرق كرة القدم. كما يجب عدم الوقوف طويلاً أمام بعض الحالات الفردية الاستثنائية للتفوق الرياضي في مثل بلداننا.
لقد تم تسليع كل شيء، بما في ذلك الحقوق الاجتماعية وحتى الأعضاء البشرية بالقانون أو واقعياً بقوة المال. وأمتد ذلك إلى تسليع الرياضة، ومن ثم أنتجت هذه السياسات تهميشاً مطرداً لأوسع القطاعات الجماهيرية. فتضيق القاعدة الاجتماعية التي ينتج اتساعها طاقات إنسانية مبهرة في كل المجالات.
لم يكن لدى مصر طوال تاريخها وحتى الآن ما هو أهم وأعظم من ثروتها البشرية التي صنعت حضارتها. ولم يمر بمصر طوال تاريخها مثل هذه المرحلة الراهنة التي تم فيها وبوعي وبأيد مصرية ومشاركة أجنبية طاغية ومعادية هذا التدمير العمدي لثروتنا البشرية. وهو ما أنتج وينتج وبسرعة شديدة اضمحلال القاعدة الاجتماعية التي لا غنى عنها للتطور، بل وللبقاء.
لقد تجاوز الانهيار القاعدة الإنتاجية في الزراعة والصناعة، وكذلك الخدمات... الخ، إلى مجالات أخرى. لقد خرجت كل جامعات مصر من التصنيف الخاص بأفضل 100 جامعة في العالم، بما في ذلك أعرق جامعات الإقليم أي جامعة القاهرة التي تأسست عام 1908، وكان ضمن هذا التصنيف إلى سنوات قريبة، والتي كان عميد كلية الآداب بها د. طه حسين، وعميد كلية العلوم بها د. مصطفي مشرفه (زميل أينشتاين وشريكه في بحوث علمية عديدة)، وبالمناسبة فإنه يوجد أكثر من 54 ألف عالم وباحث مصري يعملون في المؤسسات العلمية في الغرب. حتى حديقة الحيوان بالجيزة التي كانت مع حديقة الحيوان في برلين على رأس التصنيف العالمي في الثلاثينيات في القرن الماضي- واستمرت عقوداً بعد ذلك هكذا- قد خرجت نهائياً من التصنيف العالمي. كما يتراجع بشكل مزر ترتيب مصر في تقارير الشفافية الدولية. أما في الفساد فحدث ولا حرج.
يحترق مبنى مجلس الشورى «التاريخي» الذي لم يكن يحتوي على جهاز إنذار واحد. يغرق شباب مصر في عرض البحر وهم ذاهبون بحثاً عن عمل. يموت أكثر من 1000 مصري في عبّارة متهالكة يملكها محتكر العبّارات في مصر، ويحصل على حكم بالبراءة. يتقاتل الناس حتى الآن أمام المخابز .. نجوع، نجوع، ونمرض، ونموت من أجل أن تحيا في ترف لا مثيل له طبقة ضيقة من اللصوص والرعاع الذين يمتصون دماءنا بوحشية.
سياسات سلطة هذه الطبقة أوصلتنا إلى الحضيض في كل المجالات.. فهل تكون الرياضة استثناءً؟!