«شايلوك».. يأتينا من جديد (1)
معرفة التاريخ لا تهدف إلى التسلية، أو سرد قصص مشوقة أو محزنة. ليست للتفاخر أو التأسي. ولكن للتعلم والتماس الحكمة والخبرة، وإعمال العقل وشحذ الهمة لمقاومة الواقع البائس وصياغة المستقبل.
في خضم، وهول ما نعيشه هذه الأيام، ينبغي أن نستحضر تجاربنا الماضية، وعلى رأس ذلك أن نستحضر «دور الرأسمالية اليهودية التي اقتحمت مصر بكل وحشية بداية من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. لأن الكارثة يجري تكرارها الآن، ولكن بشكل أشمل، أي على مستوى كل بلدان الإقليم (العربي الإسلامي).
وضع اليهود في مصر خلال عهد محمد علي:
في بداية عهد محمد علي (1805– 1849) لم يتجاوز عدد اليهود في مصر 1775 فرداً (كلهم وافدون على مصر في مراحل تاريخية مختلفة). وأدت سيطرة الدولة على الاقتصاد، وعدم السماح بوجود دور قوي لرأس المال الخاص إلى جعل الدور اليهودي محدوداً لحد كبير.
في عام 1836 كان عدد سكان مصر 3905000 نسمة (أي أقل قليلاً من أربعة ملايين) وإلى جانبهم 24000 من الأتراك والجورجيين والسريان والأمريكيين واليونانيين، إضافة إلى 7000 يهودي يحمل 93% منهم جنسيات أجنبية، وبعضهم لا يحملون جنسيات (مجرد رعايا عثمانيين). والجدير بالذكر أن بعض المتمصرين القلائل من اليهود كانوا يتبرأون من الجنسية المصرية الممنوحة لهم ليحصلوا على جنسية أجنبية تضمن حماية نشاطهم الاقتصادي (الذي سيجري توسيعه مستقبلاً)، خاصة وأن وجودهم في الجهاز الإداري للدولة كان قد توسع بداية من عام 1883.
دور القوى الاستعمارية الأوربية:
كانت منطقتنا عصية على الغزو الأوربي. خرج الأوربيون الذين تخفوا زيفاً وراء صليب المسيح، ثم خرجت جيوش بونابرت مدحورة، ثم حملة فريزر البريطانية على مصر عام 1807. لكن حلم القوى الأوربية في الهيمنة على المنطقة تصاعد مع نمو الرأسمالية الباحثة عن التوسع بأي سبيل.
إزاء فشل الغزو الأوربي للمنطقة بالجيوش لجت القوى الاستعمارية (خصوصاً المجموعات المالية اليهودية) سبيلاً آخر. إذ مارست ضغوطها على السلطان العثماني عبد الحميد (1839– 1861) لتطبيق سياسة «الباب المفتوح» في الاقتصاد في الإمبراطورية العثمانية حيث تسللت الرأسمالية الأوربية واليهودية عبر النشاط المصرفي– التجاري إلى أرجاء الإمبراطورية.
بواسطة موسى منتيفوري مبعوث اليهود البريطانيين، وصاحب الارتباطات بالمجموعات المالية اليهودية تم الضغط على عبد الحميد ليدفع محمد علي باشا بعد هزيمته لتطبيق سياسة الباب المفتوح في مصر، بما يمكن الجماعة اليهودية التي تمركزت في الإسكندرية من توسيع نشاطها، إذ كانت قد تبلورت مجموعتان من الرأسماليين اليهود الأولى في الإسكندرية عام 1840 وتلتها مجموعة القاهرة.
وسرعان ما طالبت مجموعة يهود القاهرة الحماية من البرلمان البريطاني في عام 1844 لإطلاق أيديهم في توسيع نشاطهم الاقتصادي مثلما حدث مع مجموعة يهود الإسكندرية.
عقب وفاة محمد علي عام 1849 خلفه في الحكم حفيده عباس حلمي الأول 1849– 1854. وإزاء تراجعه النسبي عن سياسات الباب المفتوح لم يطق عدد من اليهود البقاء في مصر وغادروها.
بقيت عائلات رأسمالية يهودية أهمها: موصيري– رولو– قطاوي– منشة– سوارس، وهى العائلات التي ستقوم بالدور الأساسي للجماعات اليهودية في مصر حتى منتصف القرن العشرين. وإلى جانبهم عائلات رأسمالية أقل شأنا هي : اسمالون– شيكوريل– كفوري– ساسون– ناتان– كورييل– أشير– عدس– توريل– عاداه– سلامة.. وغيرهم.
تجدر الإشارة إلى أن عائلة «قطاوي»– مجموعة القاهرة- كان مؤسسها يعقوب قطاوي من أصل سوري قد تولى شياخة الصيارفة في عهد الوالي سعيد باشا الذي حكم مصر من 1854 حتى1863. وحصل يعقوب على «الحماية» النمساوية المجرية، وكانت له علاقة بالأسرة المالكة هناك. كما كان رئيساً لـ«المحفل الماسوني» في مصر، وأهم أعضاء محفل «كوكب الشرق» الماسوني الانجليزي. وقد كانت هذه المحافل الماسونية بمثابة منتديات للرأسماليات الأوربية وخاصة اليهودية. أما عائلة موصيري– مجموعة الإسكندرية– فقد كان مؤسسها نسيم موصيري الأسباني الأصل. وقد وفد إلى مصر عام 1750، وحصلت العائلة في ظل الامتيازات الأجنبية على «الرعوية الايطالية» وتصاهرت مع أسرة قطاوي.
التنافس الاستعماري البريطاني والفرنسي– الأوربي، والتوسع الرأسمالي اليهودي:
رغم التنافس الاستعماري بين الرأسماليات البريطانية والفرنسية والأوربية بوجه عام، إلا أن الرأسمالية اليهودية في أوربا وفي مصر قد عملت على تكامل أدوارها متخطية هذا الوضع التنافسي في ظل الحماية البريطانية والأوربية. حيث قامت هذه الجماعات اليهودية بوظيفة «الربط والتكامل» بين رأس المال البريطاني والأوربي واليهودي المحلي. سواء في مجال الإقراض الخارجي أو التجاري الداخلي (تجارة وتصدير القطن والأعمال المصرفية الداخلية) بما أفضى إلى الترابط بين النشاط المالي والتجاري الداخلي في الإطار المصرفي اليهودي داخل مصر وبين النشاط الدولي لرأس المال المتروبولي.
كان قطاع الإقراض الخارجي بيد جماعات يهودية تحت حماية بريطانية مثل مجموعات «أوبنهايم» و«جوش» و«روتشلد» و«الأنجلو اجيبسيان». وكان النشاط التجاري الداخلي بيد جماعات يهودية بروسية وايطالية وفرنسية.
تأسس بنك «الأنجلو اجيبسيان» بواسطة عميد التجار الفرنسيين في الإسكندرية «باستريه» وبنك بريطاني يديره اليهودي «ماسترمان».
هكذا بدأت الكارثة:
بواسطة «يهود أوربيين» استطاعت العائلات اليهودية أن تدعم علاقتها مع الوالي سعيد باشا حيث قدموا له قرضا بمبلغ 60 مليون فرنك يسدد خلال 30 عاماً بضمان إيرادات أراضي الدلتا. وبلغ المطلوب سداده 198 مليون فرنك. وكانت شركة أوبنهايم– شابيرو وشركاهم تقوم بدورها بإقراض سعيد باشا، وواصلوا ذلك في عهد الخديوي إسماعيل الذي حكم البلاد من عام 1863 حتى عام 1879.
وهكذا بدأ تدفق رأس المال الخارجي واليهودي بوجه خاص وتواصلت عملية اقتحام مصر للسيطرة عليها.
مما سبق يمكن أن نستخلص مايلي:
أن رأس المال اليهودي لعب كرأس حربة في تصفية مشروع محمد علي، نظراً لأنه يستحيل الاقتحام والهيمنة في ظل مشروع وطني (حتى وإن كان مجرد رأسمالية دولة) حيث تنهض فيه الدولة بدور أساسي وينحسر فيه دور القطاع الخاص (الضعيف وفاقد المناعة).
إن رأس المال اليهودي اقتحم مصر في ظل حماية الدول الاستعمارية باعتباره أحد أهم مكونات رأس المال الدولي. كما أنه يقوم بدوره الوظيفي لمصلحة الاستعمار حتى وإن تناقضت مصالح البلدان الاستعمارية.
إن الحركة الماسونية ودورها الخطر والتخريبي عالمياً قد وفدت إلى مصر عن طريق هؤلاء الرأسماليين اليهود مصاصي الدماء.
في رائعته الخالدة «تاجر البندقية» صور شكسبير كيف عانت أوربا في العصور الوسطى من نماذج المرابي اليهودي شايلوك. لكن نسخاً كثيرة من شايلوك اقتحمت مصر، وامتصت دماء شعبها لأكثر من قرن من الزمن. سوف نرى كيف في المقالات القادمة.
** من أهم مصادر المعلومات في الموضوع ما تضمنه كتاب الباحث والدبلوماسي التقدمي الراحل أنس مصطفى كامل مؤلف كتاب «الرأسمالية اليهودية في مصر».