إبراهيم البدراوي- القاهرة إبراهيم البدراوي- القاهرة

الفلاحون المصريون.. مارد يستيقظ

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عاش الفلاحون المصريون ويلات لا مثيل لها على أيدي كبار الملاك الزراعيين المصريين والأجانب (أوروبيون ويهود) إذ كانت الأرض الزراعية قد دخلت السوق في عهد والي مصر سعيد باشا بعد ضرب مشروع محمد علي النهضوي.

ولذلك كان الفلاحون في العصر الحديث هم المكون الرئيسي لقوى الثورة، سواء في الثورة العرابية أو ثورة 1919، وشاركهم العمال منذ أول القرن العشرين.

في كثير من الأحيان لا يتم إبراز دور الفلاحين والعمال في تاريخ الثورة المصرية الحديثة، اكتفاءً بإبراز دور النخب السياسية والفئات الوسطى. وينطبق هذا الأمر إلى حد بعيد لدى الحديث عن مقدمات ثورة 23 يوليو 1952، التي دشنت عهدها بقانون الإصلاح الزراعي لإعلان إنحياز قيادتها (خصوصاً جمال عبد الناصر) للفلاحين.

انتفاضة الفلاحين في قرية «بهوت»عشية الثورة

حفلت سنوات ما قبل ثورة 1952 بالإنتفاضات الفلاحية. عشية الثورة مباشرةً حدثت واحدة من أبرز وأهم الإنتفاضات الفلاحية في قرية «بهوت» بمحافظة الدقهلية شمال الدلتا. كانت الإنتفاضة الهائلة في مواجهة أسرة بدراوي باشا عاشور، وهي أكبر أسر الملاك للأراضي الزراعية من المصريين، إذ كانت تمتلك 36 ألف فدان. ووصل الأمر إلى حرق قصر الباشا في ظل مواجهة شديدة الشراسة. وتدخلت الحكومة بإرسال جحافل قوات «الهجانة» التي أقامت في القرية فترة لقمع الإنتفاضة. وأعتقد أن رائعة الأديب الكبير والتقدمي الراحل الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي وهي رواية  «الأرض»، ثم الفيلم المقتبس منها، وهو أحد أبرز روائع السينما المصرية والعربية والعالمية للفنان الكبير الراحل يوسف شاهين، قد عبرا بدقة وصدق في العديد من المقاطع والمشاهد عن انتفاضة فلاحي «بهوت» ومواجهة الدولة القاسية لهم.

قامت ثورة يوليو 1952 بعد الإنتفاضة بفترة وجيزة، وإستفاد فلاحو «بهوت» من قوانين الإصلاح الزراعي المتتالية.

في عام 1965 وفي إطار قانون الإصلاح الزراعي الثاني تم توزيع 57.25 ( سبعة وخمسين فداناً وربع) كانت لا تزال مملوكة لورثة عبد المجيد باشا بدراوي عاشور على 58 أسرة من الفلاحين، يصل عدد أفراد هذه الأسر الآن لحوالي 3 آلاف فرد!

في عهد السادات توالت القرارات والتشريعات والسياسات المعادية للفلاحين والفقراء والمنحازة كليةً لكبار الملاك السابقين. إذ قام برفع الحراسات عنهم، وأعقب ذلك قيام ورثة عبد المجيد بدراوي بإجراءات قانونية بهدف إستعادة الأرض من الفلاحين حيث قاموا برد التعويض الذي صرفته لهم الدولة مقابل الأرض إلى الحكومة كمقدمة لإستردادها. تعزز موقف كبار الملاك السابقين بصدور قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في عام 1997. وبالتالي صدر قرار من المحامي العام لجنوب المحافظة بتمكين العائلة الإقطاعية من الأرض، ومن يومها لم تكف عمليات إرهاب الشرطة للفلاحين لترك الأرض، بعمليات القبض عليهم عشوائياً وتلفيق قضايا ضدهم.

في لقائي مع عدد كبير منهم في منزل أحد قيادات النضال الفلاحي بالقرية وهو الصديق عبد الهادي المشد، استمعت إلى تفاصيل مذهلة عن حال الفلاحين وموقف الحكومة المنحاز والداعم تماماً للملاك السابقين وقاموا بتلخيص مطالبهم فيما يلي:

- إنهاء عمليات التهديد والترويع والقبض وتلفيق القضايا ضدهم.

- صرف مستلزمات الإنتاج لهم تطبيقاً للقرار الوزاري 119 لعام 1985 بتمكينهم من العمل والإنتاج.

- وقف تنفيذ أي قرار بتسليم الأرض للملاك السابقين لحين صدور الحكم النهائي من المحاكم المختصة.

- إلغاء بيع المياه للمنازل بالسعر التجاري الذي ضاعف الثمن لثماني مرات.

- المطالبة بأقصى دعم وتضامن من القوى السياسية والشخصيات الوطنية لحقوقهم العادلة. 

فلاحو قرية السماحية على الطريق

السهرة الطويلة مع فلاحي «بهوت» ضمت اثنين من القيادات الفلاحية البارزة في قرية «السماحية» القريبة، وهي بدورها كانت ترزح تحت نير أسرة بدراوي عاشور. تدفق حديث الحاج السيد عبد المعطي عرابي والحاج منجي سليمان علي، وهما من منتفعي الإصلاح الزراعي، واتخذ الحديث مسارين:

الأول: هو أسلوب تعامل موظفي الإصلاح الزراعي مع الفلاحين على أساس أنهم «معدمين» حصلوا على أرض لا حق لهم فيها، وبالتالي يتبعون معهم نظم إدارية وقوانين وقرارات غامضة وخروقات متعمدة للقانون أدت إلى تحميلهم بأعباء باهظة تحت مختلف المسميات، تستنزف حصيلة جهدهم طوال العام.

الثاني: هو الفساد الهائل الذي تمارسه الجهات الحكومية المتعاملة معهم. وقد لجأوا إلى كل المسؤولين وقدموا كل المستندات التي تثبت وقائع الفساد. إلا أن الشكاوي يتم تحويلها إلى المشكو في حقهم بما أدى إلى أضرار بالغة بهم من ناحية، وإلى ازدياد استشراء الفساد من ناحية أخرى.

يمكن رصد الإستخلاصات التالية نتيجة للوضع الملموس للفلاحين في القريتين كنماذج فيما يلي:

1 - إن الفلاح المصري الذي كان يواجه المالك الكبير (الإقطاعي) أصبح يواجه هذا المالك والحكومة الفاسدة في آن واحد.

2 - إن الفلاحين لم يعودوا يتوقفون فقط عند الوقائع المتعلقة بمصالحهم المباشرة، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى مواجهة الفساد بوجه عام.

3 - إنهم باتوا يمتلكون الوعي بأن السلطة القائمة هي سلطة الرأسمالية المعادية لمصالحهم، ولذلك فإن المواجهة باتت أوسع أي طبقية وسياسية في ظل إشتداد الصراع الطبقي في الريف.

4 - والأهم هو إستحضار «الذاكرة الجمعية» لهم بالنسبة لإنتفاضاتهم التي حدثت منذ ما يقارب من ستة عقود.

5 - إن التحركات الفلاحية المتتالية الراهنة (انتفاضة البرلس نموذجاً)، والعمالية (اضراب عمال المحلة نموذجاً). هي تحركات واحتجاجات بلغت حد الإنتفاضة وتزداد انتشاراً مكتسبةً لوعي متزايد بطبيعة العدو الذي يواجههم وعدم جدوى التوجه إليه.

إن فلاحي «بهوت» و«السماحية» و«البرلس» نماذج حية ليقظة فلاحية عارمة.

إن مقدمات الثورة الشعبية تبدو في الأفق.

آخر تعديل على الثلاثاء, 23 آب/أغسطس 2016 12:51