محمد الجندي محمد الجندي

الحصار الشرق أوسطي للشرق الأوسط

الحصار المطبق على العالم كله هو حصار أمريكي، فلولا الإدارة الأمريكية كان الشعب الأمريكي ينعم برفاه كامل دون بطالة، ودون مشردين، ودون تمييز عنصري، ودون عصابات (للجريمة وللدعارة والمخدرات)، ودون نقص للخدمات والضرورات الأولية، ودون حروب، ودون «إرهاب»، بل ودون كساد وأزمات إنتاجية ومالية، وكانت الشعوب الأوربية أفضل حالاً بكثير، فالتطور لديها يتيح التمتع بالرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وكانت الشعوب الروسية والصينية لا تحتاج الميزانيات العسكرية الهائلة للدفاع عن نفسها، وكانت شعوب العالم الثالث في الطريق إلى التطور الاقتصادي والاجتماعي، وبناء بلدانها بشكل يتيح لشعوبها الخروج من الفقر والجوع، ومن العمل الميليشياوي، الذي يدفع به المرء دمه ودم مواطنيه وغير مواطنيه ثمناً للقمته، وأيضاً من العمل الأسود، الذي يتلف حياة المرء وأسرته، ويتسبب بالكثير من المآسي الاجتماعية، وكذلك من العمالة السياسية والطائفية، التي تنطوي على كل أنواع الجرائم الوطنية والاجتماعية.

الحصار إياه مطبق من الجملة على الشرق الأوسط، ولكن في كل حالة من الحالات المذكورة أعلاه ثمة حصار داخلي موصول بالحصار الأمريكي، ولكنه أيضاً يتفاقم بالعوامل الذاتية.
الشرق الأوسط مؤلف من بلدان ثالثية، الشعوب فيه ترزح تحت الاستغلال الاستعماري بقيادة الإدارة الأمريكية، من جهة، وتحت الطائفية، التي قد تكون نوعاً من القبلية والعنصرية، من جهة أخرى.
والاستغلال الاستعماري خلق إدارات تضمن امتيازات الاستعمار، وفي الوقت ذاته تساعد في الدفاع عن ذلك الاستغلال.
وكلمة السر الاستعمارية بالنسبة للشرق الأوسط، مؤلفة من أقنومين، البترول والإستراتيجية، فالبترول (أو الغاز) يجب أن يبقى متدفقاً في ظل الاحتكارات البترولية الدولية، ويجب، من جهة أخرى، أن تبقى المنطقة محمية صيد أمريكية، وفقد مكن استثمار البترول من صعود الغنى الخليجي إلى درجة كبيرة نسبياً، وهذا جيد، فقد نقلها من البداوة في ثلاثينيات القرن الماضي إلى التطور الحضاري، ولكن الاستغلال يدفع للبلدان الخليجية بيد، وينهبها باليد الأخرى، عبر التعهدات، والمبادلات المجحفة، وفرض التبرعات، وتحكم بنوكه بالأموال المودعة لديها، وأيضاً بالتضخم النقدي، الذي يجعل قيمة البترول الاسمية أضعف بكثير من قيمته الحقيقية.
وتدفع الإدارات الخليجية ثمن رفاهيتها انحيازاً تاماً لسياسة الإدارة الأمريكية، وهذا ما يعلقها في الهواء، ويجعلها في تناقض مع مصالح بلدانها ومصالح المنطقة عموماً ومصالح الأجيال في هدر تلك الطاقة الثمينة، من جهة، ويجعلها سجينة أوضاعها الطائفية، وحربة أمريكية في وجه التقدم من جهة أخرى.
والنظام العراقي بدءاً من أيامه «الهاشمية»، ومروراً بأدواره التالية التي كان من المفروض أن تكون تحررية، فقد ارتكب مختلف المجازر الهمجية عبر تاريخه، وسقط أخيراً في فخ الحرب الخليجية الأولى، ثم في فخ الحرب الخليجية الثانية، مما أدى بالبلد إلى السقوط ضحية الاحتلال الأمريكي، وفي الوقت نفسه إلى هدر ثرواته الوطنية وتجزئته عملياً وتشريد شعبه بشكل لا يضاهيه سوى المثال الفلسطيني، وبسبب ذلك النظام لم يكن لاستغلال البترول ذلك الأثر الجيد الخليجي (أي الأثر الجيد في بلدان الجزيرة العربية). أيضاً لم يكن ثمة أثر جيد بالمعنى المذكور أعلاه للبترول الليبي أو غيره.
إرهاصات التقدم الجدي، التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، تحولت إلى تقدم مزيف كثيراً أو قليلاً، عصف باستقلال بلدان المنطقة الحقيقي ووضعها تحت إعادة الاحتلال القديم، ومنه الاحتلال الذي نكب به العراق.
والإستراتيجية الاستعمارية أدت إلى احتلال فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل بإدارتها، الأداة العسكرية ضد أي تحرك معاد للإدارة الأمريكية في المنطقة، تقدمياً كان أو غير تقدمي.
والاحتلال الاستعماري لفلسطين أباد الشعب الفلسطيني بجعله مشرداً بأغلبيته، وبإخضاعه داخل الأرض الفلسطينية للحكم العسكري، أو للتمييز العنصري، وجعل الفلسطينيين داخل «إسرائيل» مواطنين من الدرجة الأخيرة ودون حقوق.
عدا ذلك احتلال فلسطين جعل المنطقة كلها تقع تحت التهديد العسكري، فاشتعلت الحروب الإسرائيلية- العربية المتتالية، وتوسعت «إسرائيل»، والأفق هو أن تتوسع أكثر وأكثر.
ومثلما الفلسطينيون ليس لهم حقوق، لا في الأراضي المحتلة عام 1967 ولا داخل «إسرائيل»، فإن حقوقهم مجتزأة قليلاً أو كثيراً في البلدان العربية المضيفة، فهم بذريعة الحفاظ على هويتهم الفلسطينية ليس لهم حق المواطنة، الحق الأساسي، الذي تنبع منه بقية الحقوق المدنية. إنهم يعيشون وضعاً تاريخياً شاذاً، يندمج فيه التمييز العنصري ضدهم مع الزعم بالتمسك بالمصلحة القومية، وزاد في الطين بلة تطور الوضع الفلسطيني إلى اتفاقيات أوسلو، الأمر الذي جعل الإدارات العربية ترى، أنها لم تعد ملزمة بالشأن الفلسطيني، وهي لم تكن ملزمة أصلاً، إلا من طرف اليد.
الهجمة الاستعمارية بقيادة الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط هي أشرس منها في أي وقت. هي معركة حسم. يجب لدى الإدارة الأمريكية حسم الموضوع الفلسطيني، إما بديماغوجية خريطة الطريق، أو بإعادة الاحتلال للأراضي التي هي محتلة أصلاً، وزرعها بكثافة بالمستوطنات، التي لا تترك للفلسطينيين أي منفذ للحياة، فالمنفذ العربي مغلق، ومنفذ الأراضي المحتلة مغلق. وإذا كان الموضوع الفلسطيني غير مستعجل، ومتروك للعسكرية الإسرائيلية تتحرك به على هواها، عملياً دون رادع، فإن ثمة أموراً مستعجلة هي القضاء على السلاح المعادي للإدارة الأمريكية، أي سلاح حزب الله وإيران وسورية، وهذا يمثل إشكاليتين، الأولى دولية، فالخيار العسكري ضد الأقطاب الثلاثة، يأخذ في الاعتبار قليلاً أو كثيراً المعارضة الدولية، ربما حتى من الحلفاء، والثانية متعلقة بالأزمة الاقتصادية، فإن احتلال العراق، والحرب الحالية في أفغانستان، تكلفان الكثير، وتتسببان بمضاعفات لا حصر لها اجتماعية واقتصادية، والسقوط في مغامرة عسكرية جديدة قد تكلف العالم والشعب الأمريكي الكثير، والحل بالنسبة للإدارة الأمريكية هو خلطة من خيارين، الأول هو تحريك «إسرائيل»، والثاني هو ترك الأقطاب الثلاثة تضعف داخلياً، إلى درجة يصبح فيها افتراسها سهلاً.
والضعف حاصل، أولاً بسبب الحصار السياسي، فالإدارات المتحالفة مع الإدارة الأمريكية حريصة أكثر من الإدارة الأمريكية على إسقاط الأقطاب المذكورة من الداخل، إما بالتصدير وبالحقن الطائفيين، فالزخم الطائفي وصل في المنطقة وفي العالم إلى مستويات رهيبة، أو بدعم أي معارضة يمكن أن تغذى، مدنية، عرقية، إلخ.. والأقطاب إياها تساعد بشكل مقصود أو غير مقصود على إضعاف نفسها، دون الأخذ بالاعتبار انعكاسات ذلك على المجتمع.
إن الدفاع عن النفس يحتاج أفقاً اقتصادياً واجتماعياً معبأً للمعركة، فلا يستطيع المجتمع ذو الاقتصاد الهش، أن يقاوم، ولا المجتمع، الذي يضم نواة من الأغنياء، وحالات ضخمة من الفقراء، فالفقراء هم الذين يقع عليهم العبء الأكبر من الدفاع، ويستحقون أكثر من غيرهم عناية إداراتهم. أيضاً الفقراء هم الذين يقاومون الحصار «الشقيق» والحصار الدولي.
والزخم الطائفي هو الحصار الأكبر لشعوب المنطقة، فهو يؤلف عمى كاملاً، يفصل المرء عن التقدم، وعن مستقبل بلده، بل وعن الحياة العادية السليمة. أيمكن مثلاً، للمعتدين على الكنيسة في مصر، أن يفكروا في مصر، أو في تأثير ذلك على بلدهم؟ أيمكن أيضاً لمن يرتكب ما يسمى بجريمة «الشرف» أن يفكر إنسانياً؟ أو أن يكون مواطناً، يهمه بلده، ومستقبل بلده؟ أو أيمكن لمن يصف المرأة في مشروع قانون بالموطوءة وبالكتابية أن يدرك قيمة المرأة في المجتمع، وتأثيرها السلبي، إذا كان سجينة، والإيجابي إذا كانت حرة متطورة؟
الظلام الطائفي يفصل بين المرء وجاره، فيعتبره عدواً محتملاً، متربصاً بنسائه، وفي الوقت نفسه يعتبر نساءه ملكاً له، قابلات ليصبحن غنيمة لأي مغامر، ولا يثق بهن.
الزخم الطائفي حصار للمرء، لا يحول بينه وبين القيم الإنسانية والحضارية والوطنية فقط، وإنما بينه وبين الحياة الطبيعية العادية أيضاً.
فشعوب الشرق الأوسط محاصرة من الإدارة الأمريكية، ولكن أيضاً من الإدارات المتحالفة مع تلك الإدارة، ومن الزخم الطائفي الذي أنتجته الإدارة نفسها، والشعوب هي بحاجة إلى التحرر من ذلك الحصار المتعدد.