من «أنسنة الصراع» إلى تصفية القضية
أغلق الباب على العام 2009 دون أن تظهر أية إشارات تسمح بأن يراود المراقب أمل ولو ضعيف أو شيء من التفاؤل بعام جديد أفضل، أو أقل سوءاً وإخفاقاً، من العام الذي انتهى، سواء كان ذلك بالنسبة للقضايا الموروثة والعالقة، أو بالنسبة للوضع العربي الخرب، وخصوصاً بالنسبة للصراع العربي ـ الصهيوني، والقضية الفلسطينية.
فمع أول أيام العام الجديد، نقلت الأنباء تهديدات أميركية جديدة بالانتقام من الأفغان، بعد مقتل وجرح /13/ ضابطاً في المخابرات المركزية الأميركية (سي آي أيه) العاملة في أفغانستان في العام الجديد، والوضع في باكستان ليس أفضل، وكذلك في العراق، أما التورط الأميركي الجديد في اليمن والذي بدأ يتضح أكثر وأكثر، فقد يفتح على الأميركيين والمنطقة جبهة جديدة. وهناك التحريض على النظام في إيران، وعدم الرضى عن سورية، والتراجع المخجل في فلسطين. وباختصار، فإن الرئيس الأميركي الحامل لجائزة نوبل للسلام يبدو في الأيام الأولى من العام الجديد أقرب من أي يوم مضى إلى سلفه المجرم التاريخي جورج دبليو بوش، بينما لا تبدي «الدول الكبرى» حاجة لمراجعة سياساتها الذيلية والتابعة للسياسات الأميركية.
أما الوضع العربي، فقد سجل في العام الماضي مزيداً من التدهور ومزيداً من الخراب المتبع على الرقعة العربية، ولا يدري المراقب لهذا الوضع من أين يبدأ، فاليمن تنضم إلى العراق والصومال والسودان، وأصبحت المخاطر نفسها تتهدد مصر، ولا أحد يعرف ماذا ينتظر الأردن ولبنان والجزائر... إلخ. أما عن الوضع في فلسطين فحدث ولا حرج، فالمصالحة تتعثر والانقسام يتعمق، والحرب المعلنة بين (فتح وحماس) تلغي الشعب والقضية معاً، والتمسك بالسلطة المزعومة يحول الأطراف إلى سماسرة، وعوا ذلك أم لم يعوا، يبيعون الشعب والوطن بثلاثين من الفضة، باسم الحرص على مصالح الشعب والوطن!
ولقد أشرقت شمس أول أيام العام الجديد وقافلة «شريان الحياة» تحاول الوصول إلى غزة في ذكرى مرور عام على المحرقة التي أوقد نارها العدوان الإسرائيلي الأخير، وهي بداية تذكرنا بالطريقة الأبرز التي اعتمدها «المجتمع الدولي» منذ بدأت المؤامرة على فلسطين والشعب الفلسطيني، وقبل أن يقوم الكيان العدواني على الأرض الفلسطينية. والطريقة التي أقصدها هي ما أدعوه «أنسنة الصراع» بهدف الوصول إلى تصفية القضية.
فمنذ البداية، ومع صدور «وعد بلفور»، توافقت رؤية بريطانيا الاستعمارية مع الكذبة الصهيونية التي زعمت أن فلسطين «أرض بلا شعب»، حيث تحدث «الوعد» عن إقامة «وطن قومي لليهود» في فلسطين، معتبراً اليهود شعباً وقومية، بينما لم يلحظ أن في فلسطين شعباً وقومية وإنما مجرد «طوائف غير يهودية» يفترض أن تؤخذ احتياجاتها الحياتية كبشر و«ناس» في الاعتبار! كان ذلك تخطيطاً مسبقاً وواعياً لطمس هوية الشعب وامتداده القومي أملاً بل عملاً لدفع الصراع الذي كان يعرف أنه قد نشب، في طريق التصفية السياسية.
مع اكتمال المؤامرة في أيار 1948، وبدء العصابات الصهيونية المسلحة هجومها، بعد أن وفرت لها حكومة الانتداب البريطانية كل ظروف إنجاحه، وبدأت عملية التطهير العرقي التي مارستها تلك العصابات لتهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وبيوتهم متجاوزة الحدود التي منحها لهم قرار تقسيم 1947 الذي جاء كجزء من المؤامرة في ثياب القانون، ثم متجاهلة شروط الاعتراف بكيانها كما نص عليه القرار/18/. ونتيجة لذلك تشرد مئات الآلاف من الفلسطينيين، ولم ينجح القرار /194/ في إعادتهم إلى بيوتهم، وبدلاً من أن تتخذ الأمم المتحدة والدول الكبرى ما يكفل لهم ذلك، سارعت إلى إنشاء «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» بما يحمل ذلك من معنى واضح يكرس «المفهوم الإنساني» للصراع، ويحوّل المسألة إلى عمل خيري وإنساني يستهدف «إعالة وتشغيل» اللاجئين تمهيداً لتوطينهم في وقت لاحق، علماً بأن القرار /194/ تحدث في جانب منه عن التوطين الذي سيتحول إلى خيار وحيد عندما لا تتحقق أو تتوفر فرص العودة، هكذا حولت الأمم المتحدة، أو لنقل باللغة المستعملة اليوم «المجتمع الدولي»، القضية السياسية إلى مسألة إنسانية، مسألة تحتاج إلى «إغاثة وتشغيل» مساكين مشردين لمساعدتهم على العيش!
وعلى امتداد الصراع وتوالي الأيام والسنين والعقود، ظلت مقاربات «المجتمع الدولي» لحل الصراع العربي والصهيوني والقضية الفلسطينية «مقاربات إنسانية»، وإن وضعت في أغلفة سياسية سرعان ما تسقط بمجرد البدء في المفاوضات أو الدخول في التفاصيل، لتنتهي تلك المقاربات إلى مزيد من البؤس والفقر للفلسطيني، ومزيد من التوسع وتكريس شرعية المغتصب لأرضه. وبعد عدوان حزيران 1967 وسقوط ما بقي من فلسطين في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، تم طرح عدة مشاريع للتسوية، كلها حملت اسم «التسوية السياسية»، لكنها في الحقيقة لم تكن إلا «تسوية إنسانية» لبعض آثار العدوان الإسرائيلي المتواصل والمستمر، وكان جوهرها دائماً ما عبرت عنه دعوة الساحر الأميركي، وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشار أمنها القومي لاحقاً هنري كسينجر، منذ السبعينات الذي سار خلفاؤه على نهجه. حتى جاء جورج دبليو بوش وصدع رؤوس الفلسطينيين والعرب في الحرية عن «رؤيته» للحل وعن «الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة».
كان الجوهر ذاته: «تحسين ظروف حياة الفلسطينيين». أما الاتفاق الأهم الذي تم التوصل إليه مع قادة العدو الصهيوني فكان «اتفاق أوسلو» الذي لم يغادر هذا المفهوم، والذي أعطى المفاوض الفلسطيني «حكماً ذاتياً إدارياً» أي مجلساً لإدارة الحياة المدنية للفلسطينيين من أجل «تحسين ظروف حياتهم» بالتأكيد! وهو ما بلوره رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو وما يطبقه «رئيس الوزراء» الفلسطيني سلام فياض، والمتعلق بـ«الازدهار الاقتصادي».
المذهل أنه مع الحديث الممجوج عن «تحسين ظروف الفلسطينيين» كانت ظروف حياة هؤلاء تزداد بؤساً وسوءاً، بينما تتوسع المستوطنات وسرقة الأرض وهدم البيوت وتهويد المناطق والأحياء، حتى وصلت الموسى اليوم إلى المسجد الأقصى ذاته، وإلى مطالبة «السلطة» في رام الله بالاعتراف بـ«يهودية الدولة» العبرية، أي بأحقية وشرعية اغتصاب فلسطين كلها، وما يمكن أن يترتب عليها من آثار!
في ضوء تلك الحقائق الثابتة، يجدر بنا التوقف أمام بعض «الظواهر الإنسانية» التي تعجبنا ونشيد بها حتى لا نغرق في المخططات الصهيونية ـ الأميركية لتصفية الصراع التاريخي والقضية الوطنية. وعلينا أن نعي أنه مع التقدير الكامل لحملات التعاطف والتضامن الدولية التي ينظمها مثقفون ومفكرون وسياسيون ومنظمات دولية، وآخرها قافلة «شريان الحياة»، تظل هذه الحملات تصب، بقصد أو دون قصد، في قنوات «أنسنة الصراع» وتظل عاجزة عن تقديم الحل السياسي أو فرضه.
مثل هذه الحملات يجب أن ننظر إليها ليس أكثر من وسيلة إضافية لإظهار عدالة القضية السياسية/ ومشروعية نضال الشعب والأمة لاسترداد الحقوق وتحرير الأرض ومقاومة الاغتصاب والاحتلال والعدوان. ولن تنفع قوافل التضامن مع غزة في رفع الحصار أو إبعاد الاعتداءات وإشعال المحارق عنها، كما أن بضعة أطنان من الغذاء والدواء لن تغير الأوضاع المأساوية فيها، كذلك كثيرون يذهبون بعيداً في تقييم عمليات تبادل الأسرى، ومنذ ثلاث سنوات وقضية «شاليط» تختزل القضية الفلسطينية، وكأن إطلاق سراح بضعة مئات من المعتقلين والسجناء يمكن أن يغطي على الآلاف المحجوزين في السجون الإسرائيلية، خصوصاً أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تستطيع أن تعوض الخارجيين بأضعاف عددهم خلال أسابيع. ليس ذلك تقليلاً من أهمية تحرير أي معتقل أو سجين، ولكن تنبيهاً إلى أن مثل هذه القضايا لا يجب أن تحجب عنا ما يجب أن نراه، فالضجة العالية المبالغ فيها التي ترافق قوافل التضامن وعمليات التبادل النادرة وأمثالها تساهم بشكل أو بآخر في إظهار الصراع القومي والقضية الوطنية، وهما قضيتان سياستان بامتياز، كمجرد مسألتين إنسانيتين، وتركيز الحلول في آخر المطاف في «حل إنساني»، ليشرعن بعد ذلك اغتصاب كل فلسطين وربما أكثر.
في الوقت نفسه، علينا ألا ننسى أن النضال السياسي جنباً إلى جنب مع المقاومة بكل أشكالها وأولها المقاومة المسلحة، ضد الاحتلال ومشاريعه وعملائه وأعوانه، يجعل من كل المحبين للحرية أنصاراً مؤكدين للشعب الفلسطيني ونضاله الوطني، ويجعل من مسألة دعم نضاله والتضامن معه أموراً من قبيل تحصيل الحاصل، حيث يصبح تضامن تلك القوى دفاعاً عن إنسانية المتضامنين، وليس دفاعاً عن إنسانية المتضامن معهم.
في العام الجديد يتوجب على القوى الفلسطينية أولاً والقوى العربية ثانياً، العمل لوقف المسارات الخاطئة التي فرضت حتى الآن على مقاربات حل صراعنا القومي وقضيته المركزية، ومواجهة كل السياسات العربية الرسمية التي تسمح للجهود الدولية والمتواطئة مع الصهيونية وكيانها العدواني متابعة العمل لتصفية هذا الصراع وهذه القضية.