ثلاثون عاماً من الفشل..
في هذا الشهر تكون قد مرت ثلاثة عقود على اتفاقية العار التي عقدها «السادات» مع العدو الصهيوني، الذي ظل منذ قيام كيانه في فلسطين يستجدي السلام من العرب، لكن السلام ظل عصياً!
عقب انقلاب مايو 1971 أبدى السادات تلميحاً وتصريحاً رغبته في الحل السلمي. لكن الداخل المصري (الجيش والشعب) ومن خلال الوعي لطبيعة العدو أجبر السادات على حرب اكتوبر المجيدة. غير أن السادات بدأ في وضع الأساس الموضوعي للكارثة بشكل ملموس.
تم اغتيال مأثرة أكتوبر مبكراً. وبدأ التواصل مع العدو الأمريكي. ولضمان تمرير خط الردة الذي صاغه السادات والملك فيصل، أصدر السادات قانون الانفتاح الاقتصادي كبداية لتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي– الاجتماعي. ولفتح البلاد أمام رأس المال الامبريالي وبناء طبقة رأسمالية تنجز مهمة التبعية والردة عن الخط الوطني وتحمي المصالح الامبريالية من مواقع التبعية.
نتيجة لذلك بدأت الأزمة الاقتصادية– الاجتماعية، وبدأت بالتالي المقاومة في التصاعد. فقد ذهبت ثمار نصر أكتوبر وتضحيات الملايين من العمال والفلاحين والضباط والجنود والمثقفين الى الجهلة والأفاقين.
وهنا حدثت انتفاضة 18 و19 يناير1977 المجيدة. وإزاء عجز الشرطة عن التصدي لها، طلب السادات تدخل الجيش، الذي رفض بدوره قمع الناس وطالب بإلغاء قرارات رفع الدعم.
حينئذ أدرك السادات أنه لابد من الاستعجال في حماية الطبقة البرجوازية التابعة التي تشكلت، باللجوء إلى العدو الخارجي والصلح معه، ولو على حساب مصلحة الوطن.
إزاء مقاومة هذه الكارثة قام السادات بضربة واسعة لكل القوى الوطنية حينذاك، ثم ذهب.
جاء مبارك ليكمل ويعمق خط السادات معتمداً تكتيكاً جديداً: استمالة النخبة المعارضة واحتوائها بديلا عن الصدام، وإنهاك عشرات الملايين من الكادحين جوعاً وقمعاً. وفي حين تم احراز نجاح لا نظير له في احتواء النخبة بأرخص الأسعار، لم تستسلم جماهير الكادحين رغم الانهاك الشديد وعاودت المقاومة وصعدتها وانصرفت عن الأحزاب الرسمية المتخاذلة.
إن جوهر المسألة بعد أن اكتشفت جماهير الكادحين خدعة «السلام والرخاء» هو الإدراك المتنامي بأن السلام الموهوم تجاوز مسألة إنهاء الحرب إلى العمل على إنهاء قدرات مصر.
ولذا لم تستجب الغالبية الساحقة من الشعب للتطبيع مع العدو، أي تمكينه من التسلل الى مسام المجتمع المصري والقضاء على كل عناصر قوته. وهو ما استخدم له العدو الصهيو– أمريكي بالتحالف مع الطبقة الحاكمة طاقات مادية ومعنوية هائلة لتمريره، بدءاً من تدمير الاقتصاد عبر الخصخصة وتبديد الأصول الإنتاجية وإغراق البلاد في الديون، إلى إشاعة الفساد والأنشطة الطفيلية، إلى كنس كل المكتسبات والحقوق الاجتماعية للكادحين وتدمير مقومات حياتهم، إلى العمل على طمس الذاكرة الوطنية والانتماء الوطني والقومي وإشاعة العدمية، إلى تكوين مجموعات المتمولين صهيونياً تحت مسمى المجتمع المدني وحقوق الانسان كطابور خامس يعمل لمصلحة العدو، إلى بذر وتزكية الفتنة الطائفية... الخ.
لكن كل ما قام به الحلف الصهيو- امبريالي والطبقة الحاكمة رغم ضخامته وفظاعته لم يحقق الهدف الحقيقي لما يسمى بالسلام.
في مصر يتصاعد الصراع والوعي الطبقي والوطني والقومي ضد العدو في جدل رصين. تكفي مواقف الشعب المصري (بصرف النظر عن النخبة سواء داخل السلطة أو خارجها) أثناء العدوان على لبنان عام 2006 وكذلك على غزة مؤخراً، رغم الحصار الذي فرضته السلطة على التحركات الشعبية.
يكفي ما كشف عنه استطلاع أجرته مؤسسة «وورلد ببليك أوبينين – الرأي العام العالمي» في ثمانية بلدان عربية وإسلامية هي مصر وباكستان واندونيسيا والأردن وتركيا وفلسطين المحتلة وأذربيجان ونيجيريا خلال أعوام 2006 و2007 و2008 وتم إعلان نتائجه أواخر فبراير الماضي. كان موضوع الاستطلاع الأمريكي عن «القواعد الأمريكية في الخليج»، وأظهر أن المصريين هم الأكثر رفضاً لوجود هذه القواعد. نسبة المصريين الرافضين هي 91% والمؤيدون 1% فقط. وبالمثل كانت نسبة الرافضين من الشعب الفلسطيني 90% مقابل 5% من المؤيدين فقط.
وتكفي إطلالة سريعة على تجليات الصراع في مصر في أقل من أسبوع واحد، هو الأسبوع الأخير، لنجد: استمرار إضراب 4 آلاف عامل بـ«غزل شبين الكوم» للمطالبة بصرف الأرباح وبلاغ من اللجنة النقابية للنائب العام لتعيين مفوض لإدارة الشركة بعد هروب المستثمر الهندي. وقفة احتجاجية نظمها 350 عاملاً بشركة استصلاح الأراضي أمام النائب العام لحمايتهم من إدارة الشركة. وقفات ومسيرات من المحامين أجبرت الحكومة على سحب مشروع قانون لمضاعفة رسوم التقاضي عشر مرات. اشتعال أزمة بين الحكومة وأساتذة الجامعة بسبب تراجع وزير المالية عن تخصيص اعتمادات تحسين دخولهم ورفع دعوى قضائية ضده والتهديد بالإضراب. بوادر صدام بين الأطباء والحكومة بسبب تراجع «أحمد نظيف» عن وعوده بصرف حوافز لهم. مئات الإداريين بالتربية والتعليم بدؤوا اعتصاماً أمام مجلس الوزراء يطالبون باستقالة الوزير بسبب عدم تحسين أجورهم.
إذا كانت هذه مواقف الشعب المصري إزاء العدو الأمريكي، وهم يضعونه بحق مع العدو الصهيوني في سلة واحدة، وإذا كان الصراع الطبقي ورقعة الصراع تتسع وتتصاعد بهذه الدرجة وتمتد الى كل الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة، ألا يعني ذلك أن ثلاثين عاماً من السلام الموهوم والإنهاك واحتواء النخبة لم تنجح في الانتصار على الشعب المصري؟
لقد فشل أعداء الداخل والخارج فشلاً ذريعاً، لأنه لا سلام تحقق، ولا استسلام أمكن فرضه على الشعب. وسوف تنجح المقاومة، وسوف يحدث التغيير في يوم ليس ببعيد.