الأزمة الغذائية العالمية وتفسيراتها الخاطئة في الصحافة العالمية
انطلقت طوال الفترة السابقة، مظاهراتٌ شعبية في بلدان عديدة من الجنوب. وأسباب هذا الاستياء متماثلة في كل مكان؛ فقد ارتفعت أسعار الأغذية الأساسية بشكل كبير ومفاجئ وأصبح الناس، الذين أفقرتهم العولمة أصلاً، عاجزين عن تحمل هذا العبء الإضافي. الشعوب جائعة! أسباب هذا التفجر عديدة، لكنها كلها نتاج الرهانات الاقتصادية.
فمن جانب، مضاربة على السلع الغذائية إثر أزمة القروض الائتمانية، ومن جانب آخر إنتاج الوقود الغذائي والاحتباس الحراري. غير أنّ بعض الصحافيين يتهمون في صحفهم السلطات المحلية الإفريقية بأنها مسؤولة عن الخيارات الكارثية في مجال السياسات الغذائية التي ينتهجها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أو اتفاقيات الشراكة الاقتصادية(APE) ، ففي الصحافة البلجيكية المكتوبة، يمكننا قراءة ما يلي: «تستورد بلدانٌ عديدة في القارة [الإفريقية] أغذيةً بدل إنتاجها، لأنّ السلطات المحلية تمنح الأولوية للزراعات التصديرية بهدف الحصول على عملات صعبة لشراء تلك التي لا تنتجها. اختصارٌ مدهش. لا يقل في إدهاشه عن تبسيطه ويبرّئ بكلفة ضئيلة السياسات النيوليبرالية في الخصخصة وخطط التكييف الهيكلي التي تفرضها منذ نحو ثلاثين عاماً المؤسسات المالية الدولية وحكومات الشمال على بقية الكوكب.
السيادة الغذائية للشعوب
فرضت مؤسسات بريتون وودز خطط التكييف الهيكلي على بلدان الجنوب في سياق أزمة الديون في مطلع ثمانينات القرن العشرين.. هذه الآليات، الناتجة مباشرةً عن الإيديولوجيا النيوليبرالية، تشمل كل قطاعات المجتمعات المستهدفة. وبالفعل، بالنسبة لمنظري النيوليبرالية، ستبسط العولمة منافعها حين تنتج كل منطقة ما تتميز به وتترك بالتالي للمناطق الأخرى أمر إنتاج معظم ما تحتاجه. إنها باختصار نظرية المزايا المقارنة التي تعود للعام 1817. بصورة أكثر بساطةً، يتوجّب على بلد يشتهر بأنّه مناسبٌ بصورة خاصة لزراعة الكاكاو أن يتخلى عن إنتاج الحبوب والزيوت النباتية والخضار الضرورية لتغذية سكانه ويقايض في السوق العالمية إنتاجه بكلّ ما ينقصه. إذاً، ينبغي التخلي عن زراعات القوت العريقة والأساسية لتحقيق السيادة الغذائية للشعوب، من أجل الخضوع لألاعيب الاقتصاديين. وهي ألاعيب خطيرة ظهرت محدوديتها بسرعة كبيرة وبالتالي يمكن تأمّل كلّ خطلها عبر الإخفاقات التي ظهرت في بلدان عديدة (هاييتي والسنغال وبوركينا فاسو، الخ). خطيرةٌ لأنها تتجاهل تدمير التنوع الحيوي لصالح الزراعات الأحادية التصديرية، كما تتجاهل الآثار البيئية الكارثية للنقل الذي تتطلبه كل هذه البضائع. فضلاً عن ذلك، كيف يمكننا أن نتخيّل تمكّن بلد يصدّر الفول السوداني الذي بقيت أسعاره ثابتةً لمدة عشرين عاماً في السوق العالمية أن يستورد الجرارات والنفط اللازم لبقائه في هذه السوق، دون سياسة إرادوية للتحكم بالأسعار؟ حين نعرف ميل سعر النفط للطيران دائماً نحو قمم جديدة وأسعار السلع المصنّعة لتظل أعلى باستمرار من أسعار هذا الفول السوداني المسكين، نتخيل الكارثة. إنها الإفلاس الحتمي والجوع بالنسبة للفلاحين المحليين والهجرة الأكيدة نحو مدن الصفيح بالنسبة لجزء كبير من هؤلاء السكان.
ما هي إذاً هذه النظرية التي صدرت عن الأوساط الفكرية التي تشتهر بالرصانة وتتحدى التنوع الحيوي والسيادة الغذائية لدى الشعوب وأخطار التدمير المتزايد للموارد الطبيعية والبشرية بسبب خيار الزراعة الأحادية والجوهر الفوضوي للسوق وتعميم التلوث؟
استراتيجية متعمدة للتحول الاجتماعي على المستوى الكوني
منذ أول تقرير قدّمه فانتو شيرو في العام 1999 بصدد خطط التكييف الهيكلي، شرح بأنّه «يتجاوز مجرد فرض مجموعة إجراءات تطال الاقتصاد الكلي على المستوى المحلي. إنه تعبيرٌ عن مشروع سياسي، عن استراتيجية متعمدة للتحول الاجتماعي على المستوى الكوني، هدفها الأساسي تحويل الكوكب إلى حقل نشاط تتمكن فيه الشركات عابرة القومية من العمل بكل أمان. باختصار، تلعب خطط التكييف الهيكلي دور سيور نقل لتسهيل سيرورة العولمة التي تمرّ عبر اللبرلة ورفع القيود وإنقاص دور الدولة في التنمية الوطنية». إنقاص دور الدولة. وهذا كلام مقرر خاص للأمم المتحدة. كما أنّ السيد شيرو ليس المقرر الوحيد للأمم المتحدة الذي ذكر في أعماله الآثار الضارة لخطط التكييف الهيكلي. وردت في أعمال خبراء أممين آخرين لجأوا إلى كل الوسائل المتاحة انتقادات مفصلة لتأثيرات هذه الخطط في مجال حق السكن والغذاء والتعليم. تلك المجالات التي تفرض فيها المؤسسات المالية الدولية الخصخصة وتفتح الباب واسعاً أمام الشهية الضارية لتلك الشركات متعددة القومية. إذاً، بسبب ديون نتجت غالباً عن دكتاتوريات أو قروض نفذتها القوى الاستعمارية (هذا لا يلغي ذاك) ونقلت للدول المستقلة حديثاً، أصبحت حكومات بلدان الجنوب (ولاسيما الإفريقية منها) مرغمةً على قبول خطط التكييف الهيكلي والتنازل بذلك عن جزء كبير من سيادتها. ما يعني أنّ الزعم اليوم بأنّ الخيارات الغذائية الاستراتيجية لا تزال بين أيدي حكومات الجنوب مجرد احتيال فكري، إلا في حال نقص في المعلومات لا يليق بالصحافة التي يحق لنا توقعها في النظام الديمقراطي. نعني بذلك أنّ إدانة الأفارقة حقيقةٌ مضادة مثقلة بالمعنى ولا تساعد على خلق مناخ أخوي بين الشعوب.
مثالٌ لتوضيح تأثيرات خطط التكييف الهيكلي الضارة: هاييتي
الاضطرابات التي اندلعت مؤخراً في بورت أوبرانس، وكذلك في مدن أخرى في هاييتي، قمعت قمعاً دموياً. نحو أربعين جريحاً، أربعة عشر منهم بالرصاص، وخمسة قتلى على الأقل. على الرغم من ذلك، لم تكن هذه المظاهرات إلا النتيجة المتوقعة لاشتعال مفاجئ في سعر الرز (بنسبة 200 بالمائة). حين نعلم اليوم أنّ 82 بالمائة من السكان يعيشون فاقةً مطلقة بأقل من دولارين في اليوم، نفهم بسهولة ردود فعل كهذه في مواجهة هذه الزيادة. تستخدم هاييتي 80 بالمائة من إيراداتها التصديرية في تغطية الاستيرادات اللازمة لحاجاتها الغذائية. بيد أنّ الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. فقبل كابوس الدكتاتورين دوفالييه الأب والابن (من العام 1957 إلى العام 1986)، كانت الجزيرة مكتفيةً غذائياً. لكنّ ميل المؤسسات المالية الدولية لدعم الدكتاتوريات تأكد هنا مجدداً ورأى شعب هاييتي نفسه، فضلاً عن الجروح الشخصية (التعذيب والإعدام دون محاكمة وجو الرعب الذي أشاعه أعضاء ميليشيا السلطة)، مطالباً بتسديد الدين الخارجي الذي بلغ 1.54 مليار دولار في أيلول 2007. وقد أصيب القطاع الزراعي أكثر من غيره بتشدد المقرضين، وبما أنّ غالبية السكان من الريفيين، فقد ازداد مدى الأضرار اتساعاً. ومن المتهم؟ بصورة رئيسية انخفاض الرسوم الجمركية المفروضة على بلدان الجنوب لكن التي يندر أن يجري الالتزام بها بين الولايات المتحدة وأوروبا. واستوطنت السلسلة الجهنمية؛ وصول كميات من الرز من الخارج بكلفة أقل (لكونها مدعومة) وبالتالي هجرة كثير من الفلاحين المفلسين إلى المدن واستحالة قيام السوق المحلية برد فعل في حال تأجج الأسعار العالمية. هنا كما في الأماكن الأخرى، لا يستفيد معظم السكان من منافع اللبرلة، فتكون الأضرار هائلة.