هل يحمل الانقلاب التركي نعش «الناتو»؟
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، لا تخلو معظم تصريحات المسؤولين الأتراك مؤخراً من الإشارة بطريقة أو بأخرى إلى ضلوع العسكريين في قاعدة «إنجرليك» بأحداث الانقلاب، وهي إحدى قواعد حلف «الناتو» الست الواقعة في القارة الأوروبية. ومن المرجح أن طريقة إدارة الحكومة التركية للمرحلة القادمة، ستحدد بشكل كبير طبيعة العلاقة بين «الناتو» وتركيا التي لن تعود إلى ما كانت عليه قبل ليلة 15/تموز الماضي.
في ساعات مبكرة من إبطال محاولة الانقلاب الفاشلة، أكدت القنصلية الأمريكية في أنقرة أن السلطات التركية أغلقت قاعدة «إنجرليك» وقطعت عنها الكهرباء، بينما أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن عدداً من العسكريين الأتراك المرابطين في قاعدة إنجرليك الجوية التابعة للناتو متورطين في محاولة الانقلاب على السلطة التركية، وأضاف أوغلو أن القوات الرافضة للانقلاب قد أنجزت عملية «تطهير القاعدة من المشاركين في محاولة الانقلاب العسكري».
«انجرليك».. قاعدة متقدمة في عملية الانقلاب
من بين عمليات «التطهير» هذه، تم توقيف آمر قاعدة «إنجرليك» الجوية التركية، الجنرال بكير أرجان فان، في محافظة أضنة جنوب تركيا، ومعه 10 ضباط آخرين بتهمة التواطؤ مع الإنقلابيين.
تذهب الكثير من التقارير الصحفية، إلى أن أحد أهم أسباب فشل الانقلاب هو السيطرة مبكراً على التحركات العسكرية المتعلقة بقاعدة «إنجرليك». مؤخراً، وضمن تداعيات محاولة الانقلاب، اتهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ممثلي البنتاغون بالضلوع في المحاولة الانقلابية الفاشلة، حيث وجه انتقاداته إلى الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة الوسطى الأمريكية، الذي أشار إلى تضرر عمليات مكافحة «داعش»، نتيجة حملة الاعتقالات بين عناصر القوات المسلحة التركية، وقال أردوغان إن الجنرال الأمريكي يقف إلى جانب الإنقلابيين، في الوقت الذي صرح فيه مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، جيمس كلابر، بأن «عملية التطهير شملت الكثير من الضباط الأتراك الذين تعاملوا مع الولايات المتحدة، وألقي القبض عليهم وزجوا في السجون».
وخلال الأسبوع الماضي، قال رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، أمام حشد جماهيري في اسطنبول، أن تركيا ستغلق قاعدة إنجرليك الجوية التي «يتمركز فيها الخونة»، مضيفاً «سنغلق جميع الثكنات التي خرجت منها الدبابات وأقلعت منها الطائرات المروحية في أنقرة واسطنبول».
المؤكد أن هذه الإشارات آنفة الذكر، تعطي انطباعاً عن مرحلة جديدة من شأنها أن تحدد جدياً توجهات تركيا في مجال تعاونها مع الولايات المتحدة من بوابة «الناتو».
أزمة الناتو مزدوجة!
بعد عرض المؤشرات على توتر العلاقة بين «الناتو» وتركيا إثر محاولة الانقلاب الفاشلة، تجدر الإشارة إلى حجم الارتباط الوثيق بين الجيش التركي و«الناتو» منذ تشكل الحلف، بما لا يسمح بالتنبؤ بنسف تلك العلاقات كلياً، لكن حجم التناقضات في الداخل التركي، وفي «الناتو» ذاته، تضع العلاقات بين الطرفين على المحك، وليس الانقلاب الفاشل إلا حدثاً معززاً ومسرعاً بشكل كبير لوضع مستقبل التحالف على طاولة البحث.
التوقع حول مآلات العلاقة هنا ليس بالأمر السهل، لكن بالنظر إلى المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية جميعها، العسكرية منها والسياسية، والمتشكلة بعد الحرب العالمية الثانية، كضرورات تعكس موازين القوى الدولية في حينها، نجد أن هذه المؤسسات ذاتها هي في طور الانحلال، نتيجة تشكل موازين قوى دولية خارج البنى التقليدية، فنوايا توسيع مجلس الأمن الدولي من قبل روسيا والصين، وظهور «بريكس» ومنظمة «شنغهاي»، هي أمثلة على نماذج جديدة من التكتلات الدولية، تحل أكثر فأكثر من حيث الأهمية والشمولية مكان البنى القديمة المأزومة.
وعلى المقلب الآخر، تظهر أزمات الاتحاد الأوروبي المتزايدة مؤخراً، بعد إعلان بريطانيا انفكاكها عن الاتحاد، وتزايد الاضرابات العمالية والعمليات الإرهابية الكبيرة في أوروبا. وعلى اعتبار أن «حلف الناتو» هو الجناح العسكري لأوروبا والولايات المتحدة، فإن تلك الأزمات من شأنها أن تنعكس على وضع الحلف، لتأتي مؤخراً الأحداث في تركيا صاحبة المشاركة البرية الأوسع في الحلف، لتزيد من حدة التناقضات داخل الحلف، لكن دون القول بتخلي تركيا تماماً عن شراكتها للغرب في هذا التكتل. لكن ما هي احتمالات التغير في تعامل تركيا اللاحق مع الناتو؟
الأزمة في تركيا ليست جديدة، بل إن الانقلاب هو نتيجة لجملة واسعة من المشاكل التي راكمتها حكومة «العدالة والتنمية» في السنوات الأخيرة، ومحاولة الانقلاب هي إحدى تمظهرات الأزمة التي تعيشها تركيا ومازالت، بغض النظر عن شكل الانفجار الذي حصل. وبالتالي، فإن اقتصار التحليل على مشاركة قوى غربية تعتبر حليفة لتركيا في عمليات الانقلاب، وتحديداً الولايات المتحدة، هو خطأ من شأنه تقليل قيمة التناقضات الحادة التي تعيشها تركيا في الداخل مع الأحزاب السياسية، واستعصاء الملف الكردي، وخارجياً في تعاملها مع أزمات المنطقة وفي مقدمتها سورية.
بالتالي، فإن تركيا ليست بمنأى عن انفجارات أخرى قد لا تأخذ الشكل نفسه الذي أخذته في ليلة 15/تموز، لكن بغض النظر عن شكل الانفجار المحتمل نتيجة الأوضاع المتردية في تركيا، فإن إبعاد شبح التفكك والفوضى المحتملة في تركيا يقتضي ضمن الأولويات إجراءات جدية معاكسة لسلوك الحكومة التركية في السنوات الأخيرة.
مصلحة الدولة أم الحزب؟
يبدو أن تياراً داخل حزب «العدالة» بات يدرك هذه القضية، محاولاً في الفترة الماضية تحسين العلاقات مع روسيا وإيران، والانعطاف في تعاطيه مع الملف السوري، لكن تلك الإجراءات لا يمكن الجزم بأنها استراتيجية الحكومة التركية في علاقاتها الخارجية، فما بنته الولايات المتحدة والغرب عموماً في تركيا طوال مئة عام سابقة، من الصعب التغاضي عنه وتجاهله لمصلحة التوجهات الجديدة المفترضة، رغم إدراك القوى الطبقية وعلى رأسها البرجوازيات الوطنية خطورة التأخر في إجراء تعديلات في السياسات الخارجية الداخلية من شأنها إنقاذ البلاد من أزمتها الراهنة.
وعليه، يمكن القول أن «حزب العدالة والتنمية» نفسه بات موضع نقاش حول أهليته لقيادة المرحلة المقبلة من تاريخ تركيا، وهو ما سيظهر في المستقبل القريب بالنظر إلى سرعة التغيرات التي تعيشها المنطقة والعالم.
بناء على ما سبق ذكره، فإن التوجه الاستراتيجي الذي يضمن الإبقاء على تركيا دولة واحدة بعيدة قدر الإمكان عن التوترات والحرائق القادمة المفترضة، هو التوجه شرقاً، في اتجاه القوى الصاعدة دولياً، بينما لا يزال خيار الاكتواء بالأزمة الأمريكية حتى النهاية خياراً مطروحاً لدى بعض الأوساط الفاشية التي تضع العراقيل في وجه الاستدارة التي استحق وقتها موضوعياً.