كثير من «الوطننة» بديل عن «اللبننة» و«العرقنة»

فجأة، ومع اقتراب الموعد الأمريكي المعلن «لإنهاء المهمات القتالية في العراق» في نهاية آب الجاري، علا تضارب التصريحات العراقية- العراقية، والعراقية- الأمريكية، بين مهول ومهون و«ملتزم» و«مرتعد الفرائص»، متوسل للصفقات العسكرية على عتبات واشنطن الرابحة بهذا المعنى في كل الأحوال، ودائماً على خلفية دفع المنطقة ببلدانها نحو شفير المغامرات العسكرية أمريكية أو إسرائيلية المصدر والمصلحة، لا فرق.

 

فخلافاً لقائد قواته البرية، علي غيدان، الذي قال إن قواته مستعدة بالكامل لتولي المسؤولية، قال قائد الجيش العراقي بابكر زيباري إن قواته، ولاسيما «سلاح الجو»، ليست مستعدة لتوليها، محذراً من مغبة الانسحاب الأمريكي المزمع الذي «سيخلق مشكلة بعد العام 2011، وسيقود إلى زيادة عدم الاستقرار في العراق»، ناصحاً سياسيي العراق بالبحث عن طرق أخرى لملء الفراغ بعد هذا التاريخ قائلاً: «لو سُئلتُ، لأجبتُ السياسيين: يجب أن يبقى الجيش الأمريكي لغاية بلوغ الجيش العراقي الجاهزية الكاملة في العام 2020»، أي أنه يطالب صراحة ببقاء رسمي لقوات الاحتلال عقداً آخر في بلاده بغض النظر عن حقيقة نوايا واشنطن بخصوص «الانسحاب» أو «إعادة الانتشار» أو «تحضير الأرضية لعمليات عدوانية جديدة في المنطقة»..

أما هؤلاء السياسيون وخلال لقاءاتهم المكوكية مع سيء الصيت جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون المنطقة، المنتقل من محاولة «عرقنة» الوضع في لبنان خلال السنوات الماضية- بمعنى تفجير  وضعه لتضييع دولته واحتلاله دولياً وجعله قاعدة أمريكية- إلى محاولة تثبيت «لبننة» الوضع العراقي- بمعنى تكريس دولة وحكومة وكلاء الطوائف في العراق على النموذج اللبناني، فقد نفوا مشكلة «الفراغ الأمني»، بل وذهب رئيسهم جلال طالباني إلى الحديث عن العراق كنموذج «للديمقراطية والتنمية» في المنطقة، متناسياً وقائع هذه «الديمقراطية» من شاكلة الاستعصاء في تشكيل الحكومة الجديدة رغم مرور قرابة ستة أشهر على انتخاباتها في ظل نظام المحاصصة الطائفية المستحدث في بلاد الرافدين تحت الاحتلال، والذي تزيده مقترحات لجو ن بايدن نائب الرئيس الأمريكي لاستحداث «مناصب وكراسي عراقية جديدة» كمخرج استرضائي من «أزمة الحكومة». ويتناسى طالباني كذلك فيما يبدو، تكرار «ديمقراطية» انعدام الأمن والتفجيرات الدامية وأعمال القتل على الهوية، أو «ديمقراطية» توزيع القنابل العنقودية الأمريكية بواقع «اثنتين لكل مواطن»، حسب بعض الإحصائيات، وتشوه أجيالهم اللاحقة من آثار قذائف اليورانيوم المنضب، لتضاف إلى نموذج التنمية الباهر في مجال شبه انعدام الخدمات الأساسية للعراقيين ونزيف ثروتهم الوطنية تحت يافطة «الاستثمار الأجنبي».

وبين هذا وذاك، برز «الشرف الأمريكي» ليخرج البيت الأبيض وكذلك فيلتمان ببيانات ترفض «أي بحث في التأجيل»، وتؤكد «التزام» الإدارة الأمريكية «بوعودها وجداولها الزمنية» للانسحاب/ المناورة، تاركين دول الجوار كالكويت والأردن وحتى السعودية، متخوفة على نحو معلن من ارتدادات تنفيذ «نية الانسحاب الأمريكي»، ولتسارع إلى عقد صفقات «بليونية» طويلة الأمد لاستجلاب السلاح من المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الباحث دائماً عن أسواق وتبادلات لتسويق مخزونه وإحداث انفراجة في الأزمة الاقتصادية الأمريكية (900 مليون دولار باتريوت مع الكويت، وصفقة أسلحة بـ60 مليار دولار مع السعودية لعقد من الزمان).

وترافق ذلك مع وصول منسوب التهديدات المتبادلة بين طهران وواشنطن إلى أعلى مستوى له في الحدة حتى تاريخه، ووضوح التداول الإعلامي. فسواء كان يعني جون بولتون، مندوب واشنطن سابقاً في الأمم المتحدة، حقاً ما أفاد به من سقف زمني أمام «تل أبيب» لضرب إيران ومفاعل «بوشهر» فيها قبل تشغيله، فإنه يبتغي الانتقال بالرأي العام إلى قبول «حقيقة اقتراب المواجهة» بغض النظر عن آجالها الفعلية زمنياً، وهو ما تلقفته طهران بمقدار مماثل من وضوح يوحي بأن الضربة حاصلة لا محالة، عندما أكدت بلسان وزير دفاعها أحمد وحيدي، أنه «إذا هاجمت «إسرائيل» محطة بوشهر النووية فإن إيران ستخسر محطة نووية، وفي المقابل سيكون وجود الكيان الصهيوني في خطر».

على محور آخر، يبرز ملف «لبنان والمحكمة الدولية» بعد قرائن السيد حسن نصر الله الدافعة لاتهام الكيان الإسرائيلي باغتيال الحريري أو أقله «الظن به» والتحقيق معه، أي الدفع باتجاه ما يعجز ما يسمى بالمجتمع الدولي وأدواته عن أدائه، بمعنى التمهيد لأية إدانة جدية لمجرمي الحرب في الكيان. وهو ما يعني بالمحصلة، وحسب رأي غالبية المراقبين، أحد أمرين، إما تفكيك المحكمة وتأجيل مفاعليها وتضييع الحقيقة المرتبطة بتجريم المستفيد الصهيوني، أو «عرقنة» لبنان بعد نفخ الروح في «لبننته»، بمعنى وجود «مساع دولية» لاحتواء عودة حربه الأهلية القاذفة به وبالمنطقة إلى المجهول.

فهل هذا هو القضاء والقدر؟ بالطبع هناك دائماً خيارات أخرى، أهمها إعادة فتح الجبهة مع «إسرائيل» بوصفها العدو الأوحد بما يفرض على الجميع إعادة تصويب البوصلة بالاتجاه الصحيح، ويحرج ويعري من لا يريدون ذلك التصويب، ويكشف الخيط الأبيض من الأسود بخصوص جملة المواقف والأدوار الإقليمية وسقوفها على المحك من بعض اللاعبين، بمن فيهم السعودية في ظل التحليلات والتكهنات حول تبدلات جذرية في مواقفها، وبما يمكن أن يكون في نهاية المطاف ضربة شبه قاضية للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة ويعيد ترتيب الأوراق في أية مفاوضات وترتيبات وحدود وحلول للصراع في المنطقة، ولكن من موقع المنتصر!!؟

أما عن العراق فلا يبدو أن الأفق القريب يحمل الاستقرار الحقيقي له، ولاسيما على أجندة واشنطن وأزلامها. صحيح أنه ينبغي كنس الاحتلال فعلياً وبأسرع وقت ممكن، ولكن على درجة الأهمية نفسها ينبغي كنس النخب  السياسية التي نشأت في كنفه وتحت وصايته كأدوات في مشروعه في العراق والمنطقة، أي نسف بنية الأحزاب والكتل السياسية القائمة وإعادة تشكيلها على أساس وطني لا طائفي، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي والقوى اليسارية الحقة، اسماً وفعلاً.

أي أن المطلوب في كل من لبنان والعراق بوصفهما بؤرتين لتمرير التوتر الأمريكي الصهيوني هو «وطننة» الأوطان بديلاً عن «اللبننة» و«العرقنة»، اللتين تتجاوز تهديداتهما حدود هذين البلدين، بما يحتاج إلى جهد سياسي واقتصادي- اجتماعي وثقافي- معرفي وديمقراطي- طبقي حقيقي.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.  

آخر تعديل على الإثنين, 25 تموز/يوليو 2016 13:23