أندريه أريشيف* / ترجمة أ. جانتي أندريه أريشيف* / ترجمة أ. جانتي

موقع مجزرة «أوش» في السياسة العالمية

مهما تنوعت أسباب التطورات الأخيرة في قرغيزيا، يعتقد بعض المراقبين أن المسؤول عن إثارة المعارك هم أنصار الرئيس القرغيزي المخلوع وعصابات المخدرات التي نشأت فعلياً ضمن نظام الحكم القرغيزي خلال فترة رئاسة باكييف. ويعتقد بعض آخر أن أسباب تفجر النزاع الحالي المستجدة تكمن في تفشي الفقر، وعدم استقرار الحكم منذ إخماد نيران النزاع المشابه، قبل عقدين من الزمن، وفقدان الناس الأمل بتحسن أوضاعهم في المستقبل المنظور. وفي كافة الأحوال، سوف تنعكس آثار مجزرة مدينة «أوش»، الواقعة في جنوب قرغيزيا، على آسيا الوسطى بأكملها.

أما في وسائل الإعلام الغربي، فقد طغت أخبار المونديال الكبير على تفجر أعمال العنف في الجمهورية الآسيوية الصغيرة. وحملت معظم التقارير الغربية اتهاماً ضمنياً لروسيا وتورطها بالأحداث، إلى هذا الحد أو ذاك. فكتب دي غرينفيلد في مجلة «أوراسيا ريفيو»: «بدعمه للانفصاليين الأوزبك من أمثال قادريان باتيروف، أشعل بوتين نيران التوتر العرقي المضطرم في أوش»، تحت غطاء الصورة المؤامراتية التي رسمها للرئيس القرغيزي المخلوع، وعممها بسبب تحوله نحو تأييد الغرب!

ولكن الكثير من المعلقين العقلانيين حذروا من نظرة الارتياب تجاه موسكو القائمة على أساس مسؤوليتها عن كل ما يجري في العالم، كالقول إن «روسيا هي الدولة الوحيدة التي تملك نفوذاً على الحكومة الثورية التي استولت على السلطة في نيسان»، أو من المعروف أن «روسيا هي الدولة الوحيدة التي يمكنها التدخل بقوة لإيقاف أعمال العنف، كما فعل السوفييت قبل عشرين عاماً، في أحداث مشابهة» وفق ما نشره موقع ««winnipegfreepress.com، في مقال افتتاحي بعنوان «واجبات موسكو».

أما واشنطن فتنظر إلى احتمال تدخل روسيا في قرغيزيا بحذر بالغ وتقترح تنسيقه مع الأمم المتحدة وإخضاعه لمعاييرها. وحسب ما أوردته «ذا فايننشال تايمز»، فإن التدخل الروسي «لن يكون مرغوباً هنا، وربما يلقى بالكثير من ظلال الشك وعلى أوسع نطاق، خاصة بعد حرب جورجيا في عام 2008، التي مثلت انتصاراً عسكرياً لروسيا، إنما كانت كارثة سياسية عالمية لها»!

وفي 13/6/2010، في مقال عنوانه «روسيا تضغط على قرغيزيا لإغلاق قاعدة أمريكية»، عبّرت صحيفة «ذا واشنطن تايمز» عن قلقها على مصير قاعدة ماناس الجوية التي تستأجرها الولايات المتحدة هناك، وتستخدمها حالياً قوات حلف شمال الأطلسي لإمداد قوى التحالف الغربي الموجودة في أفغانستان: «مرة أخرى، تواجه القاعدة الجوية الأمريكية الإستراتيجية خطر الإغلاق على أيدي روسيا العاملة من خلف الكواليس للتأثير على الحكومة القرغيزية المؤقتة، التي شهدت تجدد أعمال العنف العرقي». ونقلت الصحيفة ذاتها عن مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية قوله إن الحكومة القرغيزية المؤقتة كانت قد طلبت من المقاولين، في أيار الماضي، ضريبة قيمة إضافية على شحنات الوقود المنقولة إلى ماناس. ورغم التراجع عن الطلب لاحقاً، فقد أثر ذلك على شحنات الوقود المرسلة إلى أفغانستان، مؤقتاً. وعزت الصحيفة سبب الطلب إلى سعي روسيا لإغلاق قاعدة «ماناس» العسكرية حيث أن «فلاديمير روشيلو، المبعوث الخاص للرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف، توجه إلى قرغيزيا للضغط على الحكومة في بيشكيك».

عموماً، يجمع منطق لعبة «المحصلة صفر» بين كل التعليقات الواردة أعلاه. حيث كل مكسب تحرزه روسيا في آسيا الوسطى يعتبر أوتوماتيكياً خسارة للغرب، وبالعكس.

وتعتقد صحيفة «ذا تايمز» البريطانية، أن الأزمة القرغيزية تفرض على موسكو ممارسة نفوذ أوسع في المنطقة نظراً إلى أن «روسيا وحدها تملك روابط تاريخية تؤهلها للعب دور رئيسي في إيقاف الاقتتال في المنطقة كقائدة لقوات السلام المتعددة الجنسيات»، فيما أعرب «م. أولكوت» الخبير بشؤون آسيا الوسطى في معهد كارنيغي للسلام الدولي عن أن التدخل في قرغيزيا سينعكس سلباً على مصادر روسيا المالية وغير المالية.

أما روسيا، فتنظر إلى الأزمة القرغيزية انطلاقاً من أولويات السياسة الخارجية الروسية فقط. وإذا كانت «ذا فايننشال تايمز» تقول إن التدخل المحتمل في قرغيزيا (بالضرورة تحت إشراف الأمم المتحدة) سيختبر قدرة روسيا على استعادة النظام في البلاد ومقاومتها لإغراء السيطرة عليها وتسجيل النقاط على حساب الأمريكيين بإغلاق قاعدة ماناس العسكرية، فإن وجهة النظر هذه تعجز عن إيضاح كيف غرقت في الفوضى قرغيزيا "النموذج الديموقراطي" الغربي سابقاً، ولماذا لا يمكنها العودة إلى الوضع الطبيعي إلا بمساعدة قوات السلام الروسية! كما أنه من غير الواضح ذاك الدور الإيجابي الذي يمكن أن يلعبه إشراف الأمم المتحدة دون بناء بنى تحتية مستقرة في منطقة وادي «فيرغانا» ومن ضمنها القاعدة العسكرية الروسية في أوش!!

لقد حوّل الغزو الغربي لأفغانستان في عام 2001 البلد إلى مصدر إمداد عالمي دائم للمخدرات، وناشر للاضطرابات التي تزحف في اللحظة الحالية إلى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا الوسطى. وما الانقلاب في قرغيزيا، ومجزرة أوش، إلا فصول من دراما أوسع وأشمل. أما ما يمكن أن يبعث على الاطمئنان فهو تصرف روسيا وفقاً لمنظورها الخاص ومنطقها المستقل عندما يتعلق الأمر باتخاذها الإجراءات الملائمة، وبصلاتها مع الدول المجاورة الراغبة بحماية الاستقرار في آسيا الوسطى.

* دكتور في التاريخ،

خبير في مركز الثقافة الإستراتيجية.