البرادعي .. إفراز لنخبة التكيف (2)
في نهاية القسم الأول من هذا البحث توقفنا عند مرور النخبة المصرية منذ «محمد علي» بمراحل «خمس» اكتسبت في كل منها سمات خاصة. وان كانت هذه السمات ترجمة دقيقة لتوجهين اثنين عامين، سوف يتضحان في النهاية. ولا يفوتني التنبيه إلى أن المقصود تحديداً هو النخبة الطبقية والسياسية السائدة والمهيمنة في كل مرحلة.
1– نخبة المحاكاة:
هي النخبة التي سادت وقادت بناء مشروع النهضة الهائل في عهد محمد علي. تشكلت من تحالف «عسكري مدني»، على رأسه القائد العسكري الفذ إبراهيم باشا والمثقف المدني الفذ رفاعة الطهطاوي كممثل للفئة الاجتماعية الأبرز في هذا العصر.
وأخذا وجهة «محاكاة أوربا» بالنسبة لمصادر القوة والتقدم، المتمثلة في: العلم بإيفاد البعثات إلى أوربا (فرنسا أساساً) وتأثر المبعوثين بأفكار «سان سيمون» وغيره– بناء جيش وطني قوي– بناء صناعة حديثة– تطورات هائلة في نظم الري والزراعة... الخ. أي أنها استهدفت اللحاق بالتقدم والحضارة الأوربية، وإخراج البلاد من ظلمات العصور الوسطى.
2– نخبة التمصير والاستقلال الوطني:
وهي النخبة التي قادت الثورة العرابية، وحملت مشروعها للنهضة، بعد أن تم تحطيم مشروع محمد علي واستبدال جوهره بمجرد شكل حضاري دون جوهر حقيقي، تحت وطأة هجمة عارمة وهيمنة لرأس المال الأوربي والمرابين اليهود. لكنها استفادت من بعض بقايا المشروع السابق، ومن عملية التنوير التي قادها العظيم جمال الدين الأفغاني وتلاميذه. وتشكل قوام هذه النخبة بدوره من تحالف مدني عسكري، أي من ضباط الجيش من المصريين، وفئة المثقفين، التي هي الأبرز دوراً في هذا العصر. في القلب من هذا التحالف «الأميرالاي- أي العميد- محمد بك عبيد» الذي مثل يسار الجانب العسكري، والمثقف البارز المنحاز طبقياً بحسم للفقراء وهو «عبد الله النديم». وقد تمثل خط هذا التحالف في: الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية– خلع الخديوي توفيق الخائن– إعلان الجمهورية– توزيع الأرض على فقراء الفلاحين. وكان ذلك الذي حدث منذ مائة وثلاثين عاماً يمثل بداية حقيقية وجادة لمشروع نهضة كبير.
3– نخبة المصالحة مع الغرب:
تشكلت هذه النخبة وتوسعت بعد هزيمة الثورة العرابية وتحت الاحتلال البريطاني، وفي ظل هجمة الرأسمالية الأوربية وفي القلب منها الرأسمالية اليهودية. قوامها الرئيسي في البداية كان ممن تعاونوا مع الاحتلال ونالوا العطايا كمكافآت عن دورهم الخياني. وانهالت منهم الإدانات للثورة العرابية لدرجة وصفها بـ«هوجة عرابي». كانت سمتها البارزة «التصالح مع الغرب» سياسياً وفكرياً وثقافياً وفي أنماط الحياة والمظاهر الاجتماعية... الخ. سواء بالنسبة لكبار ملاك الأراضي أو للبرجوازية الناشئة. لم يحمل أبرز رموزها منذ البداية أي نزوع لمقاومة فعلية للاحتلال، اكتفاءً بمحاولات الاستعانة بقوى استعمارية (فرنسا أساساً) وخطب ملتهبة فحسب ضد البريطانيين، أو المطالبة بجلاء الاحتلال والعودة لأحضان الإمبراطورية العثمانية (الخلافة!!). وتحت وطأة الاحتلال وامتصاص دماء المصريين في عملية استغلال مزدوجة أجنبية– محلية، نضجت الظروف لثورة شعبية هائلة هي ثورة عام 1919 التي كانت الطبقة العاملة الوليدة والفلاحون الفقراء وسائر الكادحين هم أصحاب الفعل الثوري فيها. وركب سعد زغلول قمة الموجة الثورية. وقامت هذه النخبة التي أصابها الهلع من التحرك الثوري بتهدئة الحالة الثورية وإشاعة الأوهام حول إمكانية تحقيق الاستقلال عبر التفاوض مع المحتل والحصول على دستور(يقدس الملكية الخاصة) في ظل الاحتلال وجيوشه. وفي خضم ذلك قامت هذه النخبة بإقصاء صاحب الدور الأساسي في «تنظيم» العمل الثوري والمنحاز في الوقت ذاته للطبقة العاملة، وهو عبد الرحمن فهمي الذي كان الوحيد من قمة هذه النخبة ضابطاً سابقاً بالجيش. ثم قامت بحل وتدمير الحزب الشيوعي المصري العلني (الأول) وتدمير النقابات العمالية التي أسسها. وأطلق سعد زغلول على أصحاب الفعل الثوري الحقيقيين وصف «الرعاع».
واندمج بعض رموز هذه النخبة وقممها في الرأسمالية اليهودية وعملوا في شركاتها كأعضاء مجالس إدارات. لكن الأفظع هو أن هذه النخبة لم تحمل أبداً أي مشروع للنهضة، ولم تفكر أبداً في الأمن القومي المصري وارتباطه بالأمن القومي العربي، وقامت الرأسمالية اليهودية تحت سمعهم وبصرهم بنشاط عارم دعائي وسياسي واقتصادي وعسكري لإقامة الكيان الصهيوني دون أدنى اعتراض. وظلت تفاوض وتفاوض وتفاوض بريطانيا من أجل الجلاء دون جدوى. لقد نبذت تماماً أي مقاومة وأدانتها. بل مارست أقسى درجات القمع للمقاومين للاحتلال حتى ولو كان ذلك بالمظاهرات السلمية. وعاش الوطن سبعين عاماً تحت ذل الاحتلال ونخبة المصالحة.
4– نخبة مشروع النهضة والأمن القومي العربي:
تبلورت هذه النخبة في خضم الكفاح الشعبي الذي تجاوز «نخبة المصالحة مع الغرب»، والذي تيقن من عجزها بل رفضها لأي نهضة. كما اكتشف تواطئها في حدوث نكبة فلسطين، وانطلق النضال الشعبي ليخوض حرب عصابات ضد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس. وتفجرت ثورة يوليو 1952 بواسطة نخبة قوامها ضباط الجيش في البداية. وانطلقت بقيادة جمال عبد الناصر لبناء تحالف شعبوي مع الطبقات الكادحة في ظروف معقدة لا مجال للخوض فيها. لكن تجربتها نضجت تدريجياً وطورت تحالفاتها الداخلية والخارجية. وفي خضم نضالها التحرري صاغت مشروعها النهضوي المدرك للأهمية الحاسمة للأمن القومي المصري وارتباطه بالأمن القومي العربي، و القائم على: الاستقلال الوطني– التقدم الاجتماعي– التنمية الشاملة المستقلة– الوحدة العربية. كان هذا المشروع يدرك شمول وترابط عناصر القوة الشاملة (التي تحقق وتضمن الأمن القومي) أي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعسكرية. ونتيجة لذلك واجه حرباً ضارية من قوى الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين في مصر والعالم العربي، امتدت حتى انقلاب مايو عام 1971، وإن ظلت قوة الدفع قائمة حتى حرب 1973 المجيدة والتي تمت تحت ضغط الجيش والقوى الوطنية والتقدمية المصرية.
5– نخبة التكيف مع شروط الغرب الامبريالي:
وهي التي ظهرت بهدوء وخفوت عقب وفاة عبد الناصر المفاجئة 1970. تدعمت أركانها لحد كبير بانقلاب «السادات– هيكل»، 15 مايو 1971 المضاد لثورة يوليو 1952. استثمر السادات انتصار أكتوبر 1973 الذي تم بتضحيات وضغط القوات المسلحة والحركة الوطنية، استثمره في اغتيال الانتصار من ناحية، وتعميق الثورة المضادة بالتحالف مع الولايات المتحدة وفتح البلاد للرأسمالية العالمية، وبالتالي تسريع التحولات الاقتصادية– الاجتماعية باتجاه التبعية. أي أنه سار في توجه مختلف بالمطلق للمرحلة السابقة، وصولاً إلى الصلح المشين مع العدو الصهيوني. وتدعمت أركان هذه النخبة التي قامت لدى بناء ثرواتها على كل ماهو غير مشروع من سرقة ونهب ورشوة وتجارة عملة ومخدرات وكل الأنشطة المحرمة والفاسدة، وقامت في عهد مبارك وبقيادته بتعميق التبعية والتكيف المطلق مع شروط الغرب الامبريالي. وفي تناقض مطلق مع مصالح الوطن والقوى الشعبية الكادحة، والشعوب العربية وقوى المقاومة والممانعة والتحرر الوطني والتقدم بوجه عام. وأدخلت البلاد إلى نفق مظلم لا نهاية له بما سببته من أزمة شاملة وطنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وديمقراطية وثقافية، وأصابت الأمن القومي المصري والعربي بأضرار بالغة. وتستند هذه النخبة المهيمنة في وجودها واستمرارها إلى الدعم الكامل الصهيو- امبريالي، وقامت طوال ما يقارب أربعة عقود بتخريب وتدمير عناصر ومكونات القوة الشاملة للبلاد: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية... الخ. ولم يتبق من عناصر القوة الشاملة سوى القوات المسلحة التي تحافظ حتى الآن على بقاء الكيان الوطني المصري.
(يتبع)